بدا الكلام الذي صدر عن وزير الخارجية الفرنسي جان - مارك ايرولت، عشية زيارته بيروت، وكأنه بديل من التأجيل الثاني للزيارة، او بمثابة اعتذار لان كل الجهود التي قامت بها باريس لم تأت باي نتيجة.
كل ما يستطيع الفرنسيون فعله ان يؤمنوا التغطية لأي محاولة يقوم بها الساسة اللبنانيون لاختراق الجدار الاقليمي، وبالتالي لبننة الاستحقاق الرئاسي.
ثمة ورقة في يد الفرنسيين وهي حمل الملف الرئاسي الى مجلس الامن الدولي لاتخاذ قرار، وبالطبع ليس تحت الفصل السابع من ميثاق المنظمة الدولية، يدعو الافرقاء اللبنانيين الى التزام النص الدستوري وانتخاب الرئيس الثالث عشر.
مرجع سياسي قرأ كلام ايرولت هكذا، خصوصاً عبارة «... واتخاذ خطوات في مجلس الامن» واعتبر ان الانتقال بالملف الى نيويورك يعني «خراب البصرة» او «خراب ما تبقى من البصرة»، مستعيداً مناخات قرار مجلس الامن الدولي رقم 1559 في مطلع ايلول 2004 والذي استتبع سلسلة من المصائب التي ما برحت تضرب البلاد منذ ذلك الحين.
وكان القرار قد دعا الى اجراء انتخابات نزيهة وحرة، فاذا بدمشق تتبنى التهديد للرئيس اميل لحود، ضاربة بعرض الحائط «اوامر» القرار الذي ولدت خطوطه العريضة في لقاء النورماندي بين الرئيسين جورج دبليو بوش وجاك شيراك في حزيران من ذلك العام.
ايرولت تحدث عن جهات لا تريد رئيسا للبنان في الوقت الحاضر (ما هي الحدود الزمنية للوقت الحاضر؟).
لم يقل من هي هذه الجهات، وان كان معلوماً من يقصد، فيما هناك من اراد تذكيره بعبارة «استاذه» الرئيس الاشتراكي الراحل فرنسوا ميتران «انه منطق الاشياء». ومنطق الاشياء يقول انه عندما يكون الصراع الاقليمي على تصاعد (وتصعيد) كيف يمكن للصراع الداخلي ان يتراجع او على الاقل ان يعثر على تلك الثغرة التي تسمح للبنان بانتزاع ازمته من كوكتيل الازمات الذي يغطي الساحة اللبنانية من ادناها الى اقصاها.
في كل الاحوال، كان المسؤولون اللبنانيون يتوقعون ان يصل ايرولت الى بيروت، ومعه كأس اوروبا في كرة القدم. هذا قد يساعده معنوياً على التأكيد ان بلاده لا تزال موجودة بقوة على الساحة الاوروبية كما على الساحة الدولية. البرتغاليون الذين غالباً ما يعاملون على انهم في قاع القارة العجوز تغلبوا على الديكة.
على مواقع التواصل الاجتماعي كلام لا يخلو من الفظاظة. وزير الخارجية الفرنسي لم يصل الى بيروت ديكا بل دجاجة. والدليل انه خاوي الوفاض. الكلام غير لائق. ايرولت من اكثر وزراء الخارجية ابتعادا عن الشغب والاثارة وان قيل انه مجرد ظل للرئيس فرنسوا هولاند الذي يتحدث خصومه عن شخصيته الداهية وعن تحويله السياسة الخارجية الفرنسية من «ديبلوماسية القيم» كما في زمن ميشال دوبريه وكوف دو مورفيل وميشال جوبير، وايرفيه شاريت، واوبير فيدرين الى «ديبلوماسية الصفقات».
لدى وصوله بعيد الظهر الي مطار رفيق الحريري الدولي اتجه جنوبا ليتفقد كتيبة بلاده العاملة في نطاق يونيفيل ودون ان يبقى سرا ان فرنسا بين دول اخرى مشاركة اوفدت خبراء امنيين للنظر في اجراءات الحماية المتخذة منعا لأي اختراق من قبل انتحاريي تنظيم الدولة الاسلامية.
اليوم سلسلة من اللقاءات التي تبدأ مع الرئيس تمام سلام في السرايا الحكومية وتنتهي بلقاء مع وزير الخارجية جبران باسيل على ان يعقب ذلك مؤتمر صحافي مشترك بعدما يكون قد زار الرئيس نبيه بري في عين التينة.
البطريرك مار بشاره بطرس الراعي سيكون اول من يستقبلهم الزائر الفرنسي في قصر الصنوبر. قد يذكره بأنه على درجة القصر ومنذ قرن تقريبا اعلن بطل مارن الجنرال هنري غورو قيام دولة لبنان الكبير. هذا ليس قرار جنرال بل نتيجة ما حمله البطريرك الياس الحويك الى مؤتمر فرساي وطرحه امام جورج كليمنصو.
الراعي يعلم ان بكركي لم تعد على وهجها وتأثيرها وصرختها كما يعلم ان فرنسا الخارجة منتصرة في الحرب العالمية الاولى ليست فرنسا اليوم. بالدرجة الاولى فرنسوا هولاند لا يصل الى خاصرة « النمر» (كليمنصو).
البطريرك كئيب وغاضب
ويتردد ان البطريرك كئيب من كل شيء وغاضب من كل شيء. لقاء بروتوكولي اذاً، مع علم الراعي ان ايرولت لا بد ان يضيع حين يسمع سعد الحريري وميشال عون، ووليد جنبلاط، ومحمد رعد، وسليمان فرنجية، وسمير جعجع، وسامي الجميل، يتحدثون عن مواصفات رئىس الجمهورية.
قد يستعيد ايرولت ضاحكا ما قالته كوكو شانيل في مواصفات عارضة الأزياء «أن تكون اكثر من المرأة بكثير واقل من المرأة بقليل».
لا بد أن يتعرف الزائر الفرنسي على «الادغال اللبنانية»، سيكتشف اكثر ان مهمته في تكوين تصور ما للحل سيكون مستحيلاً، وفي عيون البعض الآخر سيرى صورة الامير محمد بن سلمان، وفي عيون البعض الآخر سيرى صورة الوزير محمد جواد ظريف. المشكلة ماذا سيرى في عيني وليد جنبلاط؟
وللعلم فقط فان فريق المستشارين في الاليزيه على شاكلة الرئىس. وحين فكروا في الكي دورسيه تكرار تجربة سان كلو تلقوا نصيحة يقال انها لبنانية لأن «تجربة جنيف السورية امامنا»، ولأن تجربة مفاوضات الحوثيين مع جماعة عبد ربه منصور هادي امامنا ايضاً.
بعبارة اخرى، القرار ليس في يد الذين يجلسون الى الطاولة وانما في يد الاشباح التي تطل برؤوسها بين الفينة والاخرى من شقوق في الحائط...
البقاء في الثلاجة
هل حقاً ان ايرولت سيكتفي بهز رأسه، وهو الذي يعلم ان نصائحه وتحذيراته لن تجد أي صدى؟ في كل الاحوال باريس قلقة، وبعد ان يعود وزير الخارجية الى باريس سيفعل ما يفعله نظيره الاميركي جون كيري «افضل حل للأزمة في لبنان ان تبقى هذه الازمة في الثلاجة».
...وأن يبقى اللبنانيون في الثلاجة، اي خارج سياق الانفجارات المذهبية والاتنية في المنطقة...
حتى ان فرنسا التي تدرك مدى العبء الاستراتيجي (بما تعنيه الكلمة) وربما العبء الوجودي لملف النزوح السوري على لبنان لا تملك اي تصور لا بل انها لا تستطيع ان تطرح اي تصور يتعلق بهذا الملف، وبعدما بدا ان الحراك الديبلوماسي الفرنسي حيال الموضوع الفلسطيني لم يتجاوز الاطار الفولكلوري...
الرئىس تمام سلام دعا الى عدم الوقوع في فخ الاستثمار السياسي للملف، ووزير الشؤون الاجتماعية رشيد درباس طمأن الى ان النازحين ليسوا «حقلاً صالحاً لتلك البذور الشيطانية».
هاجس عين الحلوة
هاجس عين الحلوة يلازم المسؤولين السياسيين والامنيين في لبنان، وحين كان منير المقدح يتحدث عن ان الامن ممسوك في المخيم، كان هناك مسؤول امني يسأل ما اذا كان هذا الرجل يقيم فعلاً في عين الحلوة ام في المريخ....
ثمة قنبلة في المخيم، وهناك تخوف حقيقي من ان تتدحرج الى الاوتوستراد الذي يربط بيروت بالجنوب، دون استبعاد محاولات التنظيمات الارهابية التسلل الى الاحياء الآهلة في مدينة صيدا، او بعدما تحدت المعلومات عن ان الممسكين بالملف اللبناني في قيادة «داعش» مصممون على احداث اختراقات امنية.
المعلومات تضيف ان الاجهزة اللبنانية تمسك بقوة بكل المفاصل الامنية، فيما مخيم عين الحلوة بتعقيداته الداخلية، ومع اعتبار الترهل والازدواجية لدى بعض الفصائل الاساسية، قد يكون المنفذ الوحيد لـ«داعش» من اجل ارباك الوضع اللبناني.
ملف النفط والغاز
من جهة اخرى، لوحظ ان ملف النفط والغاز عاد الى التباطؤ. لا ريب ان اللقاء الذي حصل بين الرئىس نبيه بري والوزير جبران باسيل (واعقبت ذلك زيارة العماد ميشال عون لعين التينة) حول الملف، ازعج الكثيرين داخلياً واقليمياً...
لا احد يغفل الحساسة الاستراتيجية للملف الذي دفن لاكثر من 3 سنوات بسبب الخلاف بين عين التينة والرابية، وكانت لذلك تفاعلات سياسية لا تزال اصداؤها تتردد حتى الآن...
اوساط سياسية تقول ان باسيل الذي يمسك عملياً بالملفات الاساسية، واحياناً العادية، في وزارة الطاقة انما ابدى مرونة في الملف، وعلى اساس ان التراجع خطوة في موضوع النفط والغاز يعني التقدم خطوة، وربما خطوتين، في موضوع الاستحقاق الرئاسي.
وزير سابق في التيار الوطني الحر سبق وقال لـ«الديار» ان ملف النفط والغاز هو أكثر اهمية بالنسبة الى بري من ملف انتخاب رئيس للجمهورية. اذاً لماذا لا تكون المقايضة؟
هذا الكلام يتردد الآن داخل قوى سياسية تتعامل باستغراب مع «الاتفاق» وتسأل عن سبب ذلك الغموض الذي يواكب قضية على هذا المستوى من الاهمية بالنسبة الى مستقبل البلاد، حتى ان هناك من يلاحظ انه حتى مضمون المرسومين التطبيقيين لم يوضع امام الوزراء ليتعمقوا في درسه.
اكثر من ذلك، هناك بين تلك القوى من يعتبر ان الاولوية يجب ان تكون لترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل «حتى لا نفاجأ ذات يوم بأننا امام صواريخ حزب الله». والمقصود تفادي وصول الامور الى المواجهة مع حكومة بنيامين نتنياهو اذا ما بقي الخلاف على تلك المساحة من «المنطقة الاقتصادية الخالصة والتي تناهز الـ850 كيلومتراً مربعاً».
استطراداً، تقاطع داخلي وخارجي لحصار ملف النفط والغاز، المؤكد ان توجيهاته عبر الحدود وصلت الى بيروت، والخوف ان يعود الملف الى النوم مجدداً في الادراج، فيما الاسرائيليون يستثمرون الى ابعد مدى نقاط التداخل الجيولوجي باعتبار ان هناك في تل ابيب من يرى، وبالحرف الواحد، ان الغاز في المياه الاقليمية بمثابة «الماشيح الاقتصادي» الماشيح المخلص.