الأصولية الشيعية ترتدّ على أصحابها.
أولا: دور السيد فضل الله في نشر الفكر الأصولي..
عاد فضل الله إلى لبنان في منتصف الستينات من القرن الماضي، بعد أن أتمّ دراسته الدينية على يد السيد محمد باقر الصدر، ونزل في ضاحية بيروت الشرقية (النبعة)، وكانت مهاجر الشيعة اللبنانين من جنوبه وشرقه وتصدّر التدريس الديني وإعداد الطلاب الجُدُد، من غير أن يتكلّفوا عناء السفر إلى النجف أو قُمّ للدراسة، وقد أنشأ في سبيل ذلك "المعهد الشرعي الإسلامي" وأنزلهُ بحُسينبة أسرة التآخي، وكان بناء النادي الحسيني يقوم في حيٍّ من أحياء برج حمود.
لم يُشارك فضل الله السيد موسى الصدر مشاريعه الرامية إلى إنشاء المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى، بل انصرف إلى التدريس الديني وربط طُلابه المُتحلّقين حوله وإعدادهم لنشر الفكر الإسلامي الأصولي (بنكهة شيعية)، فكتب في تفسير القرآن مُتابعا ومُستلهماً فكر سيد قطب في تفسيره "في ظلال القرآن"، فوسم كتابه بميسم "في وحي القرآن" وانصبّ اهتمامه على إعداد الطلاب الدينين وإرسالهم إلى النجف لإتمام الدراسة على يد محمد باقر الصدر وطلبته. وظهر افتراقٌ واضح بين نهج السيدين موسى الصدر وفضل الله، فقد رأى الصدر ضرورة تأمين المرافق الصحية (مستشفى الزهراء) والمهنية (مهنية جبل عامل) والإجتماعية للشيعة "المحرومين" ،في حين ذهب فضل الله إلى ضرورة نشر التعليم الديني وتخريج "مُعمّمين" يقودون "حركية الواقع" كما كان يلهج به دائماً، مُقتفيا بذلك خُطى السيدين محسن الحكيم ومحمد باقر الصدر. ويذكر وضاح شرارة في كتابه"دولة حزب الله" أنّ إنشاء المعهد الشرعي الإسلامي توافق مع إنشاء الإتحاد اللبناني للطّلبة المسلمين عام 1966، وكان الإتحاد يُصدر دورية تصدر كل شهرين وكان فضل الله حريصاً على كتابة مقالات المجلة التوجيهية. وكان واضحاً لدى السيد فضل الله أنّ المقصود بالتعليم الديني، فضلا عن العلم الفقهي والشرعي، الإضطلاع بأدوار سياسية وتعبوية غير بارزة تارة، وظاهرة تارة أخرى. وتزايد الإهتمام في الوسط الشيعي "بالمرافق المشتركة"، مثل النادي أو المسجد أو الحسينية، أو المقهى أو مقر الحزب السياسي أو الخلية الإجتماعية، والتأكيد على انفصال المعممين الجدد عن روابطهم العائلية وعشائرهم ونسبهم، وتأكيد رابطة الأخوّة والمساواة والنضال لتحقيق أهداف الحركة السياسية"الخُمينية" وسرعان ما يتحوّل الطلاب المشبعون بالفكر الأصولي إلى "دُعاة"، فيدعون للعلم الديني من لم يكن قد سمع من قبل بالنجف أو قُم، وتوجيه الشباب"المؤمن" للإلتحاق بالقواعد العسكرية في الجنوب والبقاع، استعداداً للحروب القادمة. وتمّ الجمع لأول مرّة، وبفضل السيد فضل الله، بين دروس الدين والصلاة الجامعة( والتي كانت مُعلّقة) وتلاوة القرآن وحمل السلاح.
ثانيا: الهجرة من الضاحية الشرقية إلى ضاحية بيروت الجنوبية..
نقل السيد فضل الله ( بعد سقوط تل الزعتر وتهجير الفلسطينين واللبنانيين الشيعة من شرق بيروت) معهده إلى بئر العبد في صيف عام 1976، واتخذ من مسجد الإمام الرضا منزلا ومُصلّى وحلقة تدريس. ورسا المعهد بعدها في حي السّلم. وعهد فضل الله التعليم فيه للسيد علي الأمين. وفي عام 1983 خرج فضل الله عن صمته وعُزلته وبدأ يُراسل الصحف البيروتية لنشر خُطبه وأقواله مرفقة بالصور الفوتغرافية، وكأنّ ضربا من التقسيم (يقول شرارة) نشأ بين السيدين فضل الله والأمين، ينصرف بموجبه "آية الله العُظمى" للدعوة والخطابة والظهور الإعلامي ورعاية المؤسسات الخيرية التي تدُرُّ أموالا طائلة، وينصرف الأستاذ الأمين للتدريس بعيدا عن الأضواء. وترجحت أرقام طلاب المعهد الشرعي في حي السلم بين الخمسين والسبعين طالبا، ويُجري السيد فضل الله على الطلبة والمدرسين رواتبهم، وما يُقيم أودهم وأود دراستهم وإقامتهم.
ثالثا: ماذا خلّف السيدان فضل الله والأمين؟
كان واضحا أنّ التدريس الديني الذي اضطلعت به مدرسة فضل الله وأخواتها في بيروت وبعلبك وصدّيقين، إنّما كان الهدف منه إعداد الفقيه العملي، أو "حِرفيُّ الفقه الإمامي"، وهذا المفهوم نحتهُ وضاح شرارة، حيثُ يُجمعُ الفقهُ مع الروايات والرجال والعقائد والقِيم في "فكر" راهن يسبق الفقه، ويُقدّم له، ويرهنهُ به، والفكر السابق هذا هو التشيُّع الإيراني الخميني في حلّته السياسبة، فانتعشت في أوساط الشيعة اللبنانيين الشعائر المرتبطة بتاريخهم وأكثرها تخصيصا لهم، مثل عاشوراء والإحتفالات العلوية من يوم غدير خُم إلى مولد المهدي، إلى الأدعية المختلفة، وتُحمل هذه الأدعية على النبي أو على أحد الأئمة المعصومين.
أشاعت هذه المدارس الدينية ومناهجها المتزمتة، والمستندة إلى نظرية "الحكومة الإسلامية" الخمينية موجة عارمة من الفكر الظلامي والمتعصّب، وسلوكيات تعود لفترة نزول الوحي، كان الزمن قد عفا عليها، فبُعثت من جديد، وهي خالية من أي مضمون روحي أو أخلاقي، فشاع الربا تحت أغطية شرعية، كذلك الزنا والنفاق واختلاس الأموال،وانتهاب الأملاك العامة و"الخاصة"، فأصبح يُضرب المثل بمن كانوا محرومين فأسبغ الله نعمهم عليهم فباتوامن أصحاب المليارات. وكان من الطبيعي أن يذهب ضحية هذه الموجة السوداء، أوّل من يذهب أصحابُها ودُعاتُها.فعندما حاول السيد فضل الله( في فترة نضوجه العلمي والفكري) الخروج على أصول "الفكر الأصولي" الخميني، أصلاهُ تلامذته ومُريدوهُ وأصحاب طريقته ومن تربّوا على يديه ناراً حامية مرفقة بأقذع الأوصاف والشتائم، لم يُراعوا حّمة ولا علما ولا دينا ولا خُلُقاً. أمّا السيد علي الأمين، وهو عالم بأصول الفقه، ومُلتزمٌ الجانب الشرعي في"اجتهاده"، إلاّ أنّ طلابه الذين تربوا على يديه، كالوا له أبشع التُّهم، وأقذع الأوصاف، ليس لخروجه على أصول الدين هذه المرّة، بل لخروجه على "عصبية الجماعة السياسية" فهو إذ غادر سربه المذهبي أصبح مرذولا منبوذا. وإذ بالفكر الأصولي يرتدُّ، أول ما يرتد، على اصحابه ودُعاته.وهاهم دواعشُ هذا العصر يُمثّلون الأمثولة الكبرى.