مثّل التفجير الانتحاري عند مدخل المسجد النبوي في المدينة المنورة، نقلة نوعية محملة بالرموز لما يمكن أن تصل إليه المواجهة مع تنظيم «داعش»، ومعنى إعادة النظر في الأجواء التي أفضت إلى ظهور هذه الآفة.
لم يسقط في التفجير عدد كبير من الضحايا على نحو ما حصل في مطار إسطنبول أو في بلدة الركبان الأردنية، ولم يستهدف أبناء الطوائف الأخرى مثل سكان بلدة القاع المسيحية في لبنان أو العابرين في ناحية الكرادة البغدادية والقطيف من الشيعة في العراق والسعودية. لكن خطورته تكمن في إعلانه عن المدى الذي لن يتورع التنظيم عن بلوغه في حربه على ما يعتبره المسلمون من المقدسات وعلى «الدين العام» إذا جاز التعبير لجماعة المؤمنين التي يُكفرها «داعش».
وُضعت السلسلة الشرسة من الهجمات التي ميزت الأسبوع الأخير من شهر رمضان، وامتدت حتى بنغلادش في سياق رد التنظيم على خسائره للكثير من نقاط ارتكازه الميدانية في العراق وسورية. لكن، من الممكن وضعها أيضاً في إطار اقتصار المواجهة مع «داعش» إلى اليوم على الجانب الأمني والعسكري فيما يُصعد هو من عبثه بالمعتقدات الدينية واستغلاله الأداتي للتراث الفقهي، ينتقي منه ما يفيد نهجه ويبرر به عنفه.
بات مملاً إعلان «براءة الإسلام» بعد كل جريمة يرتكبها «داعش» من باريس إلى بروكسيل إلى سانت برناردينو إلى أورلاندو وصولاً إلى الكرادة والمسجد النبوي. لكن من الواضح، في المقابل، إن التنظيم يستسهل ويستمرئ اللعب في الساحة الخلفية الفارغة للفكر الديني. وهي الساحة المتروكة من المؤسسات والجهات ذاتها التي تسارع إلى التبرؤ من أفعال انتحاريي «داعش» ومجرميه.
يرتبط هذا الامتناع عن الاستجابة لدعوات قديمة وجديدة إلى إعادة النظر في التراث الفقهي من جانب المؤسسات المسؤولة، بالأسباب التي ولّدت ظاهرة الإسلام الجهادي في المقام الأول. أي بالانقطاع بين حاجات المجتمع إلى التجدد والتغيير المتعدد النوع وبين الافتقار إلى الرافعة السياسية لتجديد الخطاب الديني.
ليست نادرة محاولات إقامة فواصل بين جوانب معينة تسوّغ العنف في فتاوى ظهرت أثناء مراحل مضطربة من التاريخ الإسلامي مثل فتاوى ابن تيمية وضبطها في سياقها الدقيق، وبين الواقع الحالي وما يحمل من أسئلة تفرض نفسها على المجتمعات العربية والإسلامية من دون أن تجد ردوداً جدية كان يُفترض أن تظهر عبر توسيع قاعدة السلطة وإدماج العنصر الشاب في آليات القرار والانفتاح على العالم بالمعنى الشامل للكلمة. لم يحصل أي شيء من ذلك فكان من البديهي أن تتبع المؤسسة الدينية نظيرتها السياسية وأن تقف الأولى موقف المدافع عن جمود الثانية وتشبثها برؤيتها المفوّتة إلى العالم والمجتمع. الإسلام الجهادي، بهذا المعنى، هو التحدي الذي رفعته حتمية التغيير في وجه إرادوية الجمود. وكان لا مفر من صدام بين هاتين النزعتين يتخذ شكلاً مدمراً وخطراً حيثما حلّ ما دامت أبواب التداول السلمي للسلطة موصدة بالقوة الغاشمة على ما حصل في سورية، أو حيث يتم استبدال حكم استبدادي طاغوتي بحكم ميليشياوي طائفي كما هي الحال في العراق.
ثمة الكثير من الأدبيات الداعية إلى إعادة النظر في جوانب من الفقه والفتاوى قديمها وجديدها، وتقويمها في ضوء ما يدور في العالمين العربي والإسلامي اليوم. وهناك العشرات من الكتب التي يطرح مؤلفوها الآتون من قلب المؤسسة الدينية ومن هوامشها وحتى من خارجها تصورات لعلاقة الدين بالسلطة والفقه بالتاريخ وسوى ذلك. ويمكن إيراد أمثلة تبدأ من علي عبدالرازق قاضي الشرع المرموق إلى جمال البنا ومحمد شحرور والشيخ الراحل محمد مهدي شمس الدين الذي حذر الشيعة العرب من مغبة الانخراط في مغامرات ظاهرها ديني وباطنها سياسي إلخ...
لكن أيا من هذه الأصوات لم يقع على آذان صاغية. ذلك أن العمل الفكري والنظري حتى لو تطرق إلى مجالات الفقه والشرع شيء، وتحول هذا العمل إلى «خطاب» يستند إلى روافع اجتماعية وسياسية شيء آخر تماماً. وفي غالبية الأحوال، يبقى الاجتهاد والدعوات الإصلاحية طي الكتب وعلى الرفوف فيما يسيطر على المناخ العام من يبرع في استغلال الخوف وتعميم العنف وتسويغ القتل باسم الدين.
وواحدة من التحديات التي يرفعها «داعش» على سبيل المثل، هي استعادته فتاوى يزيد عمرها عن ألف سنة وطرحها كحقائق دينية ثابتة مثل أحكام السبي والاسترقاق وملك اليمين وسوى ذلك، من دون أن تظهر مرجعية إسلامية ذات صدقية لتقول ببطلان ما يذهب إليه التنظيم الإرهابي، على الأقل في جانبه المتعلق بتبرير ممارساته وسعيه إلى السلطة بأي ثمن، خشية إثارة ردود فعل غاضبة من جمهور لم يعتد على التعامل المرن مع النصوص الدينية. وربما ما من داعٍ للتذكير بأن هذا النوع من التعامل ساد على مدى قرون في المجتمعات الإسلامية، وأن النكوص عنه عائد إلى تغير طبيعة المجتمعات ودخولها مراحل طويلة من الركود قبل أي شيء آخر.
عليه، ما من فقر في الخيال أو في القدرة على استنباط الحلول من ضمن آليات سبق اعتمادها لمواجهة التغيرات في البيئات الاجتماعية والسياسية. لكن المشكلة تكمن في ضعف الفئات التي ترى مصلحة حقيقية لها في التغيير.