كل الكلام عن حلحلة داخلية، أو تسهيل إنجاز استحقاقات دستورية أو غير ذلك، لا يبدو أنه يستند الى عناصر واقعية تقول بوجود تحول كبير من حولنا، ما يفسح في المجال أمام اللبنانيين لإنجاز بعض أمورهم.

الحراك السياسي الناشط من هنا وهناك، والحديث عن الرئاسة، مروراً بالانتخابات النيابية وقانونها، ومصير قادة الاجهزة الامنية والعسكرية، وصولاً الى ملف النفط، كل ذلك، لا يمكن الاستناد إليه لإيهام الناس بأنهم على وشك ملاقاة تحولات كبيرة على صعيد إدارة بلدهم.
ولكي لا يكون الامر شديد التعقيد، تكفي فقط مراجعة واقع وأولويات القوى الكبرى المعنية بملف لبنان، كذلك واقع وأولويات القوى اللبنانية من صنف أصحاب حق الفيتو، وهذه المراجعة كافية للتدليل على وجهة الامور.
خارجياً، كل العالم ينظر الى لبنان، اليوم، على أنه جزء من ملفات المنطقة المعقدة. ليس في العالم أو الاقليم من جهة تتصرف على أن لبنان ملف بحدّ ذاته. لا أميركا والغرب وإسرائيل والسعودية وتركيا، ولا روسيا وإيران والعراق وسوريا. كل هؤلاء لديهم انشغالاتهم الملحة. من الاوضاع الاقتصادية المتأزمة، الى ملف الارهاب المتنقل عالمياً، الى ملفي سوريا والعراق على وجه الخصوص، وكذلك ملفّا اليمن وليبيا. ومع الأسف، يبتعد هؤلاء أيضاً عن متابعة ملف فلسطين المحتلة التي صارت نسياً منسياً في زمن التكفيريين.
الولايات المتحدة تريد استقرار لبنان. صحيح. لكنها لم تعد معجبة باستقرار يمنح خصومها المحليين المزيد من عناصر التفوق. لذلك، نراها تسعى بين الحين والآخر إلى ممارسة ضغوط يستجيب لها قسم من اللبنانيين. وهدف هذه الضغوط هو حزب الله. لكن ليس الحزب كطرف محلي، بل المستهدف هو دوره في مواجهة إسرائيل وفي حروب المنطقة. وكلما شعرت الولايات المتحدة بأن الضغط يمكن أن يضرب مصالح جماعتها في لبنان، تتراجع الى الخلف قليلاً، ويلحق بها عملاؤها من اللبنانيين. وفي حالة الفراغ، تطلب الولايات المتحدة من فرنسا القيام بألعاب بهلوانية، يجيدها الحكم في باريس، وهي ألعاب ممنوعة من الصرف في أي سوق سياسي.

 


الطرف الآخر المعني هو السعودية التي تشعر بأن فريقها اللبناني يخسر يوماً بعد يوم، ولا تجد سبيلاً لمعالجة وضع هذا الفريق. لكنها لا تريد أن تستسلم لتعاظم نفوذ الطرف الآخر، فتجد عندها مصلحة في منع وصول العماد ميشال عون الى الرئاسة، وتضغط لكي يتحول موقفها من حزب الله الى إشكالية لبنانية بحد ذاتها. وكما هي حال أميركا، فإن مشكلة السعودية مع حزب الله ليست في حيثيته اللبنانية، بل في دوره المعطل لمصالحها في سوريا والعراق واليمن ومناطق أخرى.
أما إسرائيل، فهي تخشى استقراراً سياسياً في لبنان من النوع الذي يعزز نفوذ حزب الله أو وجهته. ولكن، ليس بمقدورها ممارسة الضغوط السياسية على حلفائها في الاقليم والعالم. وهي، حتى إشعار آخر، غير قادرة على لعب دور مباشر، بعدما خرجت ذليلة من محاولة عام 2006.
من الجانب الآخر، تنظر روسيا وإيران وسوريا الى لبنان كمقر رئيسي لأبرز حلفائها، أي حزب الله، وكذلك كممر لنشاط مركزي في مواجهة هجمة الطرف الآخر. وهذه الاطراف ليس على جدول أعمالها اليوم سوى ما يجري في سوريا والعراق، وبالتالي، ليس من عاقل يتوقع أن تمارس أي نوع من الضغوط على حزب الله لإقناعه بما يتناقض مع مصالحه. ولذلك، فإن هذا المحور يتصرف وفق قاعدة «التفويض» الفعلي لحزب الله للبتّ في مسارات الامور الداخلية.
أما في لبنان، فإن الفيتو الموجود بين يدي حزب الله وتيار المستقبل مرتبط أيضاً بالحسابات الخارجية لكل منهما. يعني، لو كان الحل ممكناً داخلياً فقط، لكان سعد الحريري قاد تظاهرة الى الرابية حاملاً على أكتافه العماد ميشال عون لإيصاله الى القصر الجمهوري، لأنه يعتقد أنه بعد جلوس عون في بعبدا، ستحمله الجماهير نفسها الى السراي الكبير، حيث صار أقصى طموح الحريري العودة الى رئاسة الحكومة. لكن الحريري، الذي يحتاج الى من يعالج له مشكلاته المادية الكبيرة جداً، ليس بمقدوره اليوم مواجهة السعودية أو أي طرف آخر. وهو يلجأ الى المقاطعة السلبية، من خلال تبنّي مواقف يعرف سلفاً أنها غير واقعية، بما فيها طبيعة ترشيحه الحالي للنائب سليمان فرنجية الى رئاسة الجمهورية.
وحالة سعد الحريري تنعكس بصورة كاملة على حلفائه المسيحيين. لكنها تعطل قدرات جهات مثل الرئيس نبيه بري أو النائب وليد جنبلاط على المناورة، فينتهي الأمر ركضاً في المكان نفسه، بينما لا يخفي حزب الله أن انشغاله بملف سوريا، على وجه الخصوص، الى جانب ملفات العراق والبحرين واليمن، لن يفرض عليه أي نوع من التنازلات اللبنانية. وهو لا يرى نفسه خاسراً من لعبة المماطلة الجارية، لكنه مستعد لنقلة سريعة لو فكّر الطرف الآخر بواقعية، سواء في ملف رئاسة الجمهورية أو بقية الملفات.
وعليه، فإن وضوح أولويات ووجهة الاطراف الفاعلة في الملف اللبناني لا تشير الى قرب حصول حلحلة نوعية، بل سنكون أمام موجات جديدة من التمديد لواقع الحال، بما يشمل استمرار الشغور الرئاسي، واحتمال عدم حصول توافق على الانتخابات النيابية أو على قانونها، وبقاء القديم على قدمه في ما خصّ المواقع البارزة عسكرياً وأمنياً. وإذا حصل تبديل في بعض المواقع، مثل قوى الامن أو رئاسة الاركان في الجيش، فإن ذلك لن يكون خارج الصورة المعروفة اليوم.
لبنان، مع الأسف، لا يملك قوة استقلاله الكافية لبتّ أموره، وهذا له ترجمة وحيدة: استمرار عملية ربط النزاع قائمة حتى إشعار آخر!