كثيرة هي السيناريوهات والروايات التي حيكت حول تفاهم عين التينة النفطي، أما الحقيقة فلا يعرفها سوى الرئيس نبيه بري ومعاونه السياسي علي حسن خليل، والعماد ميشال عون ووزيره «فوق العادة» جبران باسيل.
لكن هذا التفاهم على أهميته، ليس سوى البداية.. لا النهاية.
في الداخل، يتعين على «ناقلة» الحلم النفطي ان تعبر ممرات اللجنة الوزارية المعنية، ومجلسي الوزراء والنواب، قبل ان تبدأ رحلتها الطويلة والشاقة في قعر المياه اللبنانية، نحو آبار الغاز..
أما النصف الآخر من «الفتوحات النفطية» المنتظرة، فيتوقف على إنجاز عملية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة، وتحديدا في المنطقة البحرية المتنازع عليها والتي تبلغ مساحتها قرابة 850 كلم2، حيث تبين بالوقائع العلمية ان لبنان يملك في هذه المنطقة كميات كبرى من النفط والغاز، وتحديدا في البلوكين 8 و9 الواقعين في مرمى الاطماع الاسرائيلية.
وإذا كانت بيروت قد انتزعت من الموفد الاميركي السابق فريدريك هوف اعترافا بسيادتها على قرابة 90 في المئة من مساحة الـ850 كلم2، إلا ان مساعد وزير الخارجية الاميركية لشؤون الطاقة الذي حلّ مكانه، آموس هوكشتاين، بدا أقل مرونة في مقاربة الحق اللبناني، وأكثر انحيازا الى الطرح الاسرائيلي.
ومع ذلك، فان الاتجاه السائد لدى الدولة اللبنانية يتجه نحو عدم الربط بين مسارات الترسيم والعرض والتلزيم، بحيث يتم عرض البلوكات الجنوبية 8 و9 و10، من ضمن تلك التي ستعرض، وفي حال ابدت الشركات الدولية اهتماما بالاستثمار فيها، وفق اسعار جيدة، يجري إبرام عقود معها، على ان تخضع «خطوط التماس» النفطية مع اسرائيل الى مقاربة خاصة، في انتظار إتمام ترسيم الحدود البحرية.
وقد تلقى الاميركيون، خلال الأشهر الماضية، إشارات لبنانية واضحة مفادها ان أي لعب بالنفط هو كاللعب بالنار، وبالتالي ان «أي خطأ اسرائيلي في التعامل مع حقوقنا قد يجر الى حرب، من شأنها ان تهدد بإشعال المنطقة».
تبدو المعادلة واضحة، بالنسبة الى بري الذي يختصرها كالآتي: «لن نقبل باستحداث مزارع شبعا بحرية في مياهنا.»
وفيما يصر لبنان على رفض أي تفاوض سياسي مباشر مع العدو الاسرائيلي، لتسوية النزاع الحدودي، عُلم ان بيروت قد اقترحت على الاميركيين، عبر هوكشتاين، مبادرة ترمي الى إعادة إحياء دور لجنة تفاهم نيسان، التي كانت تضم ضابطا لبنانيا وضابطا اسرائيليا وثالثا من «اليونيفيل»، على ان تتولى هذه اللجنة انهاء مشكلة الحدود البحرية بالاستعانة بخبراء تقنيين كما جرى في موضوع ترسيم الحدود البرية (الخط الأزرق)، ولا مانع لدى لبنان من متابعة الأميركيين لهذا المسار.
ويمكن اثناء التفاوض تلزيم شركات دولية حيادية للبلوكات الحدودية الجنوبية، في حال توافر الشروط المناسبة، مع عدم التصرف بموارد الجزء المتنازع عليه في البلوكين 8 و9، الى حين إنجاز الترسيم.
وأثناء الزيارة الاخيرة التي قام بها هوكشتاين الى بيروت، عقد اجتماعا ساخنا مع بري الذي باغته بالقول: أنا أعرف الكثير عنك، بما في ذلك أنك تمضي معظم إجازاتك في اسرائيل..
كانت هذه الإشارة كافية، لإيصال رسالة الى الزائر الاميركي الذي حاول ان يتشاطر قدر الامكان على المطالب اللبنانية، فأكد له رئيس المجلس انه ليس واردا لديه التخلي عن كوب ماء من البحر اللبناني «تماما كما انني لا أطمع في كوب واحد من مياه البحر الفلسطيني المحتل».
ونبه بري ضيفه الى خطورة الموقف، قائلا له: باسمي وباسم «حزب الله»، أؤكد لك اننا لا نريد نشوب حرب مع اسرائيل، لكن النزاع على النفط والحدود ربما يتسبب في اندلاعها، فانتبهوا..
قصة «التفاهم»
في هذا الوقت، تمكن لبنان من تحسين موقعه التفاوضي، عبر تفاهم عين التينة الذي سبقه مخاض عسير وطويل.
كان بري يلح على الوزير جبران باسيل، خلال توليه وزارة الطاقة، ان يستعجل في عرض البلوكات النفطية العشرة، «بغية حماية حقوق لبنان البحرية والنفطية عند الحدود مع فلسطين المحتلة»، تاركا له حرية اختيار عدد البلوكات التي سيتم تلزيمها للشركات تدريجيا. لكن باسيل كان يرفض طرح العشرة، دفعة واحدة، خصوصا انه لم تكن بحوزته معطيات جازمة، آنذاك، حول وجود محتوى غازي كبير في البلوكات الجنوبية المحاذية للكيان الاسرائيلي.
تكررت محاولات بري لإقناع باسيل بنظرية «الطوابق العشرة»، على قاعدة انه عندما يتم الانتهاء من تشييد مبنى جديد، تُعلق في العادة عند مدخله لافتة يكتب عليها: «للبيع او الإيجار»، من دون استثناء أي من الطوابق، وعندما يأتي الزبون، يختار الطابق الذي يعجبه ثم يحصل تفاوض معه حول السعر ويكون القرار الأول والأخير لصاحب المبنى.
لم ينجح بري طيلة ثلاث سنوات في إقناع باسيل بتسييل هذه القاعدة نفطيا.. ومع استمرار المراوحة، بدأ رئيس المجلس يرتاب في أبعاد تصلب وزير الطاقة آنذاك.
أصيب الملف بجمود عند هذا الحد، وأصبحت طريق المرسومين النفطيين الى طاولة مجلس الوزراء غير سالكة وغير آمنة، بفعل رصاص القنص السياسي.
مرت الايام الضائعة والمهدورة، ثقيلة الوطأة، الى ان طلب وزير الطاقة الحالي آرتور نظاريان لقاء بري مؤخرا.
وصل نظاريان الى عين التينة متأبطا الخرائط، يرافقه أعضاء هيئة إدارة قطاع البترول. على الفور، خاطب نظاريان رئيس المجلس قائلا: «لقد تبين انك كنت على حق يا دولة الرئيس عندما أكدت منذ سنوات وجود مكامن نفطية لبنانية في أقصى الجنوب، متداخلة مع المياه الفلسطينية المحتلة».
ثم ما لبث وزير الطاقة ان فَرَد على الطاولة خريطة مزدحمة بالألوان، فيما تولى أحد أعضاء الهيئة شرح مضمونها والفارق بين لون وآخر.
ترك بري مقعده، وجلس على الكنبة المحاذية، قبالة الخريطة، وراح يدقق فيها، حيث تبين له ان اللون الداكن يغطي جزءا واسعا منها، وهو اللون الذي يؤشر الى المكامن الجنوبية الحدودية، المثبت بشكل نهائي، انها غنية بالغاز، وفق مسح أجرته خلسة احدى الشركات الدولية المتخصصة، فيما يرمز اللون الفاتح الى النقاط التي من المحتمل انها تحتوي كميات من الغاز.
بعد أيام، انعقدت جلسة الحوار الوطني في عين التينة، فانتهز بري الفرصة ليدعو الرئيس تمام سلام، خلال دردشة جانبية، الى الاسراع في عقد جلسة لمجلس الوزراء، يكون المرسومان النفطيان على جدول أعمالها.
استغرب سلام الطلب، وقال لبري: ألا تكفيني مصائبي، حتى اضيف واحدة جديدة اليها.
حاول بري ان يشرح لرئيس الحكومة سريعا ان هناك تطورا إيجابيا طرأ على الملف، ناصحا إياه بان يتشاور في الامر مع الوزراء باسيل وخليل ونظاريان الذين كانوا مشاركين في جلسة الحوار.
لم يبد سلام حماسة فورية لاقتراح بري، مشترطا حصول توافق سياسي حول المرسومين النفطيين بين رئيس المجلس والعماد ميشال عون، قبل التئام أي جلسة بترولية للحكومة.
لاحقا، ابلغ خليل رئيس المجلس ان باسيل يرغب في لقائه. على الفور، ألغى بري موعدا كان محددا في اليوم التالي، ليتسنى له مقابلة وزير الخارجية، طالبا من معاونه السياسي ان يقترح على باسيل ان يأتي بثياب «سبور»، حتى لا يتخذ الاجتماع طابعا رسميا، لا سيما وان الحصيلة السلبية للقاءات السابقة دفعته الى التعاطي بحذر مع الزيارة المفاجئة.
حطّ باسيل في عين التينة مزودا بخرائط تفصيلية، فيما توقف بري عند نتائج المسوحات التي أثبتت صوابية توقعاته بامتلاك لبنان مكامن غازية مشتركة مع كيان الاحتلال، وتحديدا في البلوكين 8 و9 وهما الاكثر عرضة لخطر السرقة الاسرائيلية.
وتوجه بري الى ضيفه قائلا: كل ما أطلبه هو ان نتفق على عرض البلوكات العشرة، وبعد ذلك، لست معنيا بعملية التلزيم، ومن أين تبدأ واين تنتهي.. ربما يتقرر في المرحلة الاولى تلزيم ثلاثة بلوكات او اثنين او واحد، هذا ليس شأني، بل شأن وزارة الطاقة وهيئة القطاع.
حاول باسيل ان «يأخذ ويعطي» في هذا الجانب، على مدى قرابة ساعة من الوقت، لكن رئيس المجلس بدا متمسكا باقتراحه قائلا: تحملت كثيرا وصبرت طويلا.. يجب أن ننتهي من القصة، حتى نحمي ثروتنا في المكامن الجنوبية من التهديد الاسرائيلي الداهم، وأضاف: إذا تقرر عرض البلوكات العشرة ينبغي ان تكون بلوكات الجنوب الثلاثة من ضمنها، وإذا تم عرض خمسة ينبغي ان تكون البلوكات الجنوبية بينها، وإذا جرى عرض اثنين، فان الاولوية تبقى لبلوكين جنوبيين ونضيف اليهما الجنوبي الثالث.. أنا لا أشترط ان يبدأ التلزيم العملي من البلوكات الجنوبية، هذا ليس اختصاصي، ما يهمني ان تكون مشمولة بالعرض لنقطع الطريق على أي قرصنة اسرائيلية.
وعندما همّ باسيل بالمغادرة، توقف للحظات عند باب الغرفة متوجها الى بري بالقول: «ما دمنا قد اتفقنا على ملف النفط، فماذا عن الملف الآخر والذي لا يقل أهمية»؟
بري: عن أي ملف تتكلم؟
باسيل: رئاسة الجمهورية..
بري: «عدس بترابو، وكل شي بحسابو»..
.. وبعد أيام، حل عون ضيفا على عين التينة.