أُطلق على السيد محمد حسين فضل الله لقب آية الله العظمى، وهو لقب تبجيلي مُحدث، لم تعرفه الأمة الإسلامية من قبل، بل شاع لقب أمير المؤمنين للخلفاء، والإمام لآل بيت النبي والعلماء كالامام الغزالي مثلا، أو إمام الحرمين أبو المعالي الجويني.
والمفترض أن يكون "آية الله" قد بلغ مرحلة الاجتهاد، الاجتهاد بمعانيه المختلفة ومضامينه المتعددة.
اولا: مقاربة أولية لفهم "الاجتهاد"..
حفظ لنا التاريخ الإسلامي في فترة التأسيس والاجتهاد كتابين مهمين في موضوع الاجتهاد، وهما فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة لأبي حامد الغزالي، وكتاب فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال لابن رشد.
وكان الغزالي، كما هو معروف، قد كفّر الفلاسفة في مسائل ثلاث:
قدم العالم ،وعلم الله بالجُزئيات، وحشر الأجساد، أمّا كتاب "فيصل التفرقة" ،فقد جاء ليُكمل كتاب "تهافت الفلاسفة" في الرّد على مناهج التأويل الباطني واستنتاجاتها ، ومن ثمّ جاء الرّد الكامل والاحتجاج الفلسفي المتعمّق على آراء وكتابي الغزالي من قبل ابن رشد، صاحب كتابي "تهافت التهافت" و"فصل المقال".
كان للغزالي وابن رشد، الفضل الأكبر والباع الأطول في ميادين الاجتهاد، فقد ذهبا إلى تفضيل المُناظرة على الفتنة، ولم يشهد التاريخ الإسلامي بعدهما من تصدّى بايمانٍ وإخلاص لمشاكل تنظيرية لم تزل قائمة كعرقلة معرفية أساسية في الفكر الإسلامي، كمشكلة التفسير والتأويل للنصوص المنزلة، وما يترتب عليها من طرُق الاستنباط عند الفقهاء لوضع أحكام الشريعة، وهذه القضية، أي التفسير والتأويل، أصبحت اليوم أهم وأشد صعوبة وتعقيدا مما كانت عليه زمن الغزالي وابن رشد. ولم يظهر في عصرنا الراهن من حاول "بصدقٍ وإخلاص " التصدي لمسائل فقهية عويصة كالراحل السيد فضل الله، وقد جنت عليه ما جنتهُ حتى الآن من قدحٍ وتسفيه، إلاّ أنّه نزل إلى ساحة الحق بجرأة وإقدام، على خُطى عبد القادر الجيلاني الذي دعا إلى: منازعة الحق بالحقّ للحق، والسيد فضل الله إنّما كان يتابع عناوين مهمة في ميادين الاجتهاد الفكري الإسلامي، وإن لم يبلغ ذُراها، ككتاب "الرعاية" للمحاسبي، و"التربيع والتدوير" للجاحظ و"آراء أهل المدينة الفاضلة" للفارابي، و"منهاج الأدلة في عقائد الملّة" لابن رشد، و"الرد على المنطقيين" لابن تيمية.
ثانيا: إشكالات راهنة بحاجة للاجتهاد..
تعجّ المجتمعات الإسلامية اليوم بمسائل طارئة بحاجة ماسة لاعمال سيف الاجتهاد والتأويل في خضمها، سعيا لإيجاد حلول ناجعة لها، منها مسألة الاعتماد على علم الفلك في تحديد مواقيت الأشهر القمرية، ومشكلة الحجاب الإسلامي، ومكانة المرأة في المجتمع الإسلامي، أو مشكلات ادهى وأمر كقيام الإرهابيين والتكفيريين بالإسراف في القتل وسفك الدماء وسبي النساء، وانتهاك الحرمات باسم الدين وعملا بالسُّنة النبوية. هذا فضلا عن أنّ مشكلات الحداثة الغربية تقف اليوم على أعتابنا، شئنا أم أبينا، وتُجبرنا على تغليب التاريخية والتغير على كل البُنى الثابتة، أمّا الذين يُغالبون التطور الطبيعي ومسار الثورات والطفرات العلمية الأخيرة فلن يجنوا على المدى المنظور سوى الخيبات.ذلك أنّهم يجهلون " إيمان وإخلاص" أولئك الذين يُناضلون لإدخال الوحي داخل الفضاء المعرفي الموحّد الاجزاء (حالة السيد فضل الله) ،فقد حاول في محاولاته التجديدية( على ندرتها) إدخال التيولوجيا أي (علم اللاهوت) في الانتروبولوجيا ، أي (علم الإنسان) المنفتحة إلى ما لا نهاية، وبالتالي لا يظل الوحي، أو السُّنة، نظاما للاستعباد الفكري والثقافيي في أديان الوحي الثلاثة.
ثالثا: المنظور الخاص في الاجتهاد عند السيد فضل الله..
يبدو( وأرجو أن أكون مصيبا) أنّ الاجتهاد كان بنظر السيد فضل الله، فعلاً من أفعال الفكر النظري الموجّه نحو المعرفة، والبحث عن الأسس الإلهية والمعرفية من أجل تبرير الأحكام الشرعية، وولوج هذه الأبواب في التجديد الفقهي،إنّما تؤدي حتما إلى زعزعة المعتقدات الأكثر شعبية وإلفة، وإلى تصحيح العادات الأكثر رسوخا، وإلى مراجعة العقائد الأكثر قدماً، وأنّ الاجتهاد هو عمل من أعمال الحضارة وجهدٌ من جهودها.
ربما يُنصفه التاريخ، فيكون في نهاية المطاف علماً من أعلام التجديد، وأنّ ما يتعرّض له اليوم، هو محنة بسيطة لا تكاد تُذكر أمام شهداء الرأي والفكر الحر، فليلُ هذه الأمة طويل على مايظهر وما يبطن، والعاقبة للمُتّقين .