تفوح في المنطقة روائح الغاز. وهي وإن تسرّبت خفيفة قبل ذلك، فإنها باتت تزكم الأنوف وصارت أعراض تنشّقها تبدّل أمزجة وتقلب سياقات وتطيح بخيارات. لا شيء غير ذلك يمكنه تفسير المفاجآت الجيو استراتيجية التي طرأت على تقاطع علاقات روسيا وتركيا وإسرائيل بعضها ببعض.
ولمن لم يقتنع بما تفعله حكايات الغاز في طباع البشر، عليه تأمل التوليفة التي اتُّفق عليها في بيروت للإفراج عن ملف النفط الذي تراكم عليه غبار الخلافات التقليدية المملة البليدة.

جرى أمر ذلك في عين التينة، مقر رئيس المجلس النيابي نبيه بري، بحضوره وحضور وزير المال المقرّب جدا منه علي حسن خليل ووزير الخارجية، رئيس التيار الوطني الحر (صهر الجنرال ميشال عون)، جبران باسيل. الاجتماع أقرب إلى خلوة بين المقربين خرج منه الدخان الأبيض لإطلاق ورشة حكومية سريعة لإصدار القوانين التشغيلية والضرائبية والتقنية للدفع بالمناقصات نحو السوق.

قبل عدة أعوام التقيت بأحد خبراء الجيولوجيا اللبنانيين، وهو أكاديمي أستاذ في جامعات لندن، وواحد من أهم المراجع الدولية الذي يتلقى عيّنات من مشرق الأرض كما مغربها للإفتاء في وجود الهيدروكاربونات من عدمها. وفي سؤاله عن ضجيج النفط الذي كان يصمّ الآذان حينها، أسر إليّ أن النفط مكتشف تحت الشواطئ اللبنانية قبل ذلك بكثير، لكن قرارا لبنانيا محليا، وربما بإيحاءات دولية، عمل على دفن الملف وعدم التطرق إليه في ظل الوصاية السورية على البلد، وحين استوضحته الأمر قبل عام، أخبرني، وهو المنخرط علميا وعملانيا في هذا الملف، أن الأمر مازال مؤجلا بقرار ما. كان واضحا أن خلافات الفرقاء اللبنانيين حول البدء بورشة التنقيب في المياه اللبنانية بعد بدئها منذ زمن في المياه الإسرائيلية والقبرصية، لم تكن لحسابات المحاصصة السوقية فقط، بل لغياب ضوء أخضر دولي يتيح ذلك. لكن هذه الأيام، شيء ما قد اختلف. فحتى عتاة السياسة في لبنان الذين يعرفون خبايا الأمور وأسرارها يقاربون توليفة “عين التينة” في ضيافة الرئيس بري بتلعثم يشبه الاستسلام لقدر لا طائل لهم على إدراك حِكمِه.

في أواخر مايو الماضي ووسط ضجيج زيارة مساعد وزير الخزينة الأميركي، دانيال غلايزر، لمناقشة العقوبات المالية ضد حزب الله مع الحكومة اللبنانية وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وصل إلى البلد مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الطاقة والنفط والغاز آموس هوكشتاين. علّقت صحف بيروت حينها بأن في الأمر تعليمات أميركية نقدية ونفطية.

جال هوكشتاين على من يهمه الأمر لينقل رغبة أميركية رسمية علنية بتفعيل ورشة النفط اللبنانية. توقع المسؤول الأميركي أن يسمع خطابا ديماغوحيا عن ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل لتحديد الحقول اللبنانية من تلك الإسرائيلية. كان جواب الموفد الأميركي حاضرا: أجّلوا التنقيب في الحقول الجنوبية “المتنازع عليها” وباشروا إطلاق ورشة الحقول الشمالية. غادر الرجل البلد دون أن تعلن أي نتائج لمحادثاته، لكنه، على ما يبدو، حقن في أروقة القرار كلمة السرّ التي أنتجت المفاعيل الأولى لتنشيط الملف النفطي في لبنان.

يشارك لبنانيون كثيرون رأي النائب عن القوات اللبنانية أنطوان زهرا حول تساؤله عن السرّ الذي يقف وراء تحريك الملف النفطي بالاتفاق بين حركة أمل التي يرأسها نبيه بري والتيار الوطني الحرّ الذي يتزعمه ميشال عون. وإذا ما كان الخلاف يعود حول الأمر إلى عهد كان فيه جبران باسيل وزيرا للطاقة، فإنه لم يعد كذلك هذه الأيام. وقد يستغرب اللبنانيون شلل القوى السياسية الأخرى وخرسها أمام هذا “القدر النفطي” الذي هبط خلف ظهورهم. وربما لن تفرج هذه الأيام عن سرّ تلك الأحجية ومفاتيحها، فغموض الأمر لن يكون أكبر من ذلك الذي فرض “غراما” بين إسرائيل وروسيا، وبين إسرائيل وتركيا، وبين تركيا وروسيا.

يخبرنا الخبير النفطي نقولا سركيس الذي نشر دراسة حول الموضوع مؤخرا أن “نتائج المسوحات في المناطق البحرية تشير إلى احتمال كبير لوجود مكامن تحتوي على قرابة 800 مليون برميل من البترول وكميات تتراوح بين 25 و30 تريليون قدم مكعب من الغاز. تقديرات أخرى أكثر تفاؤلا تذهب إلى ضعفَيْ هذه الأرقام. ويرى سركيس، وبناء على دراسات وتوقعات، أنه “بإمكان لبنان أن يتأمل إنتاج غاز تبلغ قيمته الإجمالية 400 – 500 مليار دولار على أساس الأسعار العالمية التي كانت سائدة ما قبل انهيار السوق في منتصف 2014. أما حصة لبنان الصافية من هذه القيمة الإجمالية، أي بعد احتساب النفقات ونصيب الشركات العاملة، فيمكن تقديرها بحوالي 150 – 200 مليار دولار. للدلالة على أهمية هذه الأرقام بالنسبة إلى لبنان، تكفي الإشارة إلى أنها تضاهي أربعة أضعاف إنتاجه القومي، وضعفَيْ دينه العام، وثمانية أضعاف استيراداته السنوية، وما لا يقل عن 50 مرة قيمة صادراته الحالية (3- 4 مليارات دولار)”.

ضوء أخضر دولي سيتيح للبنان الاستفادة من ثروة كبرى هبطت عليه كما على المنطقة بأسرها (شواطئ إسرائيل وقبرص وغزة ودلتا النيل في مصر). لا شيء في المنطق الاقتصادي يبرر ذلك الضوء في ظل انخفاض أسعار النفط وبالتالي انخفاض نجاعة استخراجه. فالخبير الاقتصادي مروان اسكندر يرى أن “التوقعات الجيولوجية في لبنان تفيد أن أعماق آبار البحث والتنقيب تفوق الـ3000 – 5000 متر، والتكاليف أصلا مرتفعة، والالتزامات المالية للشركات سواء للحصول على عقود أو توفير مدفوعات مسبقة عند إنجاز العقود، تدنت إلى حد بعيد”. ومع ذلك ولأسباب ما فوق اقتصادية تدفع باتجاه إعادة تأمل المنطقة من قبل العواصم الكبرى بصفتها ميدانا إستراتيجيا ومفترق طرق إلزامي لخطوط الطاقة في العالم.

في خلوة “عين التينة” تمّ الاتفاق على توليفة توفّق بين رؤى باسيل المطالب بتلزيم جزئي متدرّج لـ”بلوكات” المياه اللبنانية، ورؤى بري الذي يريد تلزيما كليا ودفعة واحدة. وإذا ما كان الاتفاق ثنائي الشكل، فإن العارفين يرون في الهيئة المشكلة لإدارة شؤون النفط في لبنان مجلس طوائف يرعى حصص تشكلاتها السياسية، على ما يطرح ألف سؤال حول مصير العائدات النفطية ومواطن استثمارها.

للمفارقة، لا يبتسم المواطن اللبناني لأخبار النفط في لبنان، فهو يشمّ روائح كريهة تضاف إلى روائح الفضائح في ملفات فساد لا تنتهي، فإذا كان البرلماني أنطوان زهرا ابن “القوات اللبنانية” الحليفة للتيار الوطني الحرّ الذي يرأسه جبران باسيل، يسأل وما علاقة باسيل بالأمر ولماذا تطلق العجلة النفطية عبر اتفاق ثنائي يجري خلف الأبواب، فماذا يقول المواطن العادي عن هذا القدر النفطي الهابط من المجهول؟


محمد القواص، العرب