تعرض حي الكرادة في العاصمة العراقية بغداد مساء يوم الثاني وصباح الثالث من يوليو إلى عملية تفجير ضخمة قام بها داعش استهدفت التجمعات المدنية بعد فترة الإفطار، سرعان ما أعلن رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي بأنها تأتي ردّا على هزيمة داعش في الفلوجة وسط غضب جماهيري من أهل حي الكرادة الذي زاره العبادي معتقداً أنه سيواسيه، لكونه ابنا لهذا الحي، لكنه فوجئ بالمحتجين يرمون القناني والحجارة على موكبه. وقد يكون تعقيب العبادي الإعلامي على الجريمة الداعشية بأنها نتيجة خسارته في الفلوجة فيه جانب من الصحة، لكن العبادي حاول أن يكسب الإعلام لصالحه ولصالح سياسته، ولأنه لا يريد أن يفقد نشوة النصر وتوظيفها سياسيا بعد طرد داعش من الفلوجة، لكنه يبدو غير محظوظ، كما لا يستطيع أن يدافع عن فشل السياسة الأمنية التي يقودها حاليا وقادها نوري المالكي من قبله، فمسلسل الخروقات الأمنية متواصل منذ عام 2003، وتستهدف هذه الخروقات المدنيين الأبرياء في جميع مدن العراق قبل ولادة داعش وقبل احتلاله للعراق وبعده.
هذا الهجوم المخطط له بدقة يؤكد الكثير من المعطيات اللوجستية والسياسية لدى الطرف الحكومي العراقي من جهة، ولدى تنظيم داعش الإرهابي من جهة ثانية، ويفرض ضرورة إلقاء الضوء بقوة على حجم الأزمة السياسية التي يمر بها البلد، وأن الفوضى الأمنية واحتلال داعش سببهما تلك الأزمة التي تصر الأحزاب الحاكمة في بغداد ورئيس الوزراء الحالي على تجاهلها وعلى الاستمرار بتلك السياسات العقيمة.
من جانب داعش تتأكد لمرات عديدة سياسة هذا التنظيم بأنه ليس جيشا عسكريا ينهزم وينهار أمام جيش مقابل عدو، فهو يعتمد حرب الكر والفر ويمتلك المبادرة والخيارات المتعددة في الزمان والمكان اللذين يختارهما، وعملياته تخضع لتكتيكات مثيرة، وقد أراد من خلال هذه العملية الإجرامية أن يثبت ذلك للحكومة وبأن لديه خلايا نائمة داخل العاصمة قادرة على تنفيذ هجمات كبيرة ومرعبة. وبذلك تسقط نظرية الاستعداء الطائفي التي ترتهن لها الأحزاب الحاكمة والميليشيات الطائفية والتي تتهم جميع أهالي مدن العرب السنة وتحملهم مسؤولية دعم داعش، ولهذا تم أخيرا اقتياد أكثر من عشرين ألف فلوجي إلى الحجز والاعتقال بعد دخول القوات الحكومية للفلوجة، وتمت إحالة أكثر من ألفي رجل منهم إلى القضاء حسب تصريحات الحكومة بعد أن تم قتل وتغييب أكثر من 700 مدني حسب ما ورد في الأنباء.
أكدت الوقائع منذ ثلاثة عشر عاما التحاق عدد من ضباط الجيش العراقي بعد حل مؤسستهم الوطنية عام 2003 بداعش إثر فقدانهم لوظائفهم فجأة، وتلقى أصحاب الرتب من عقيد فما فوق الضربة الأعنف حيث تم حرمانهم من مستحقاتهم ومن عملهم في العهد الجديد وبدلا عنهم تم إحلال أفراد الميليشيات الشيعية وما سمي بـ“الدمج” بلا خبرة عسكرية سوى الولاء الحزبي والطائفي، مما أدى إلى حالة التدهور والتفكك في أول صدمة عسكرية لثلاث فرق عسكرية أمام عدو لم تتجاوز أعداده المئات. ولعل نجاح معركة الفلوجة الأخيرة يعود، حسب المعلومات الواردة، إلى خبرات لضباط عراقيين سابقين تمت دعوتهم وإلحاقهم بقاطع العمليات.
حجم واقعة حي الكرادة ببغداد يشير إلى أن هذا التنظيم لا تعيقه الجغرافيا فينفذ عملياته أينما يريد تبعا لمخططاته، ويعتقد بأن المساحة الكونية هي مجاله الحيوي لجرائم القتل والتفجير يدعمها اهتمامه بوسائل الرعب وإدامة ماكنته عبر إخراج أفلام قطع الرؤوس والإعدامات التي تنال حتى أنصاره كجزء من سياسة الردع ضد مقاتليه للحفاظ عليهم ومنع تسربهم، وهم يتمتعون بميزة خاصة وخطيرة هي “الانتحار الفردي” وعدم التراجع عن الهدف التدميري المطلوب، وهذا أحد عناصر القوة لدى هذا الخصم فسلاحه أيديولوجي وليس عسكريا، وقد أثبت ذلك في العراق منذ اجتياح أراضيه في السادس من يونيو 2014 وفي سوريا، بالإضافة إلى العواصم الأوروبية وأميركا.
في مقابل ذلك نجد قوى الأمن والقوات العسكرية العراقية النظامية المتعددة التي تم حشرها من قبل الحكام في خانة التخاذل والتراجع والهزيمة قبل سنتين في هزيمة الموصل العسكرية المدبرة، حيث وجهت الإهانة إلى عنوان الجيش العراقي الذي تتجنب وسائل الإعلام العراقية الرسمية ذكره وتكتفي بعناوين من قبيل القوات الأمنية والعسكرية والعمليات المشتركة.. إلى جانب ما تعرض إليه أبناء الموصل وفق الشهادات الحية من سياسات استفزازية من قوات الأمن والشرطة مما وفر المناخات الحيوية لذلك التنظيم الإرهابي لتحقيق مآربه بما يسميه الولاء النفسي له وعدم الانحياز لحكومة المركز رغم ممارساته الإجرامية ضدهم.
واقعة حي الكرادة ليست هي الأولى التي تشير إلى العجز الأمني لدى الحكومة الحالية ومؤسساتها التي بنيت وفق خيارات الانتماء والتمايز الطائفي والجهل الفني، حيث طردت جميع الكفاءات في الميادين الأمنية، وسيطر المستشارون الإيرانيون بعد المستشارين الأميركان الذين كانوا خلال فترة الاحتلال، وهيمنت العناصر المتخلفة التي تسيطر على مقدراتها شبكات النهب والفساد في وقت تطورت فيه الأساليب العصرية للحمايات الأمنية. ولا بد لهذا المثال المفجع ألا يخضع للتوظيف الحكومي الساعي إلى إلقاء التبعات على داعش فقط، وهو معروف وليس بحاجة إلى التأكيد، المهم والضروري التأكيد على أنه لا حل أمنيّا حتى وإن توفرت أدواته ووسائله، وهي غير متوفرة، والدليل على ذلك أجهزة كشف المتفجرات الموزعة على نقاط التفتيش في بغداد، وسبق منذ أكثر من سنتين أن أعلن عن صفقة فساد في توريدها، لكن تمت التغطية على رؤوسها، لكي يضطر العبادي بعد هذه الحادثة إلى المطالبة بسحبها.
وبدلا من أن يكون احتلال داعش وعملياته مبررا لتعديل سياسات الأحزاب الحاكمة باتجاه المصالحة السياسية مع العرب السنة، وإعادة التوازن للعملية السياسية، وإعادة الاعتبار لكل المظلومين من الكفاءات المهنية، تزداد سياسة الاضطهاد وتعميق الكراهية بين أبناء الشعب الواحد وفي مقدمتهم الشيعة والسنة، وتتعمق أكثر خطوات الارتهان لمؤسسات إيران الاستخبارية والأمنية وأبرزها الحرس الثوري، واحتمالات زيادة حالات الانهيار الأمني في الوقت الذي مازال فيه داعش في الموصل والكثير من البلدات العراقية وسط وشمال غربي العراق، مع احتمال خروج الأزمة عن السيطرة.
المشكلة السياسية في العراق لا يمكن أن تغطيها الحرب على داعش، بل تؤكدها في كل لحظة، تكمن المشكلة في أزمة النظام السياسي القائم على التمايز الطائفي، ولا بد من الوصول إلى حل سياسي عادل، بأن تتمكن القوى السياسية العراقية من كبح جماح الطائفية، وأن يعاد التأكيد على حوار سياسي جامع مرتبط بمشروع وطني، وهو جاهز في عقول الخيرين من أبناء هذا البلد.
العرب د. ماجد السامرائي