لا شك ان تنظيم "داعش" في أزمة. إذ قرر الائتلاف الدولي أخيراً محاربته جدياً على ما يبدو، بعد ملاعبته طويلاً . اشتد عليه الحصار في كل من سوريا والعراق، ما جعله ينتقل الى مرحلة هجومية حيثما يستطيع. فحصلت تفجيرات، الأردن ولبنان وتركيا حتى الآن، في عمليات توصف من المحللين بأنها مختلفة نوعياً.
لكن ما يهمنا هنا هو انعكاس التفجير الأخير في القاع على وضعنا الداخلي وكيف نتعاطى معه. لكل تفجير أو حدث أو احصاء، قراءات متعددة بالطبع. فكل طرف يقرأه من موقعه ويستغله لمصلحته. فالحدث لا يتحقق إلا لتضافر عوامل متعددة لا تحصى، ومن هنا القول بإن للحقيقة أوجهاً متعددة.
يميل اللبنانيون إلى ربط الحوادث، مهما كان نوعها، بخطط كبيرة ومؤامرات كونية على لبنان الصغير. طبيعي ان يثير تفجير القاع الخوف والهلع لأنه جعل من التكهنات بالتهديدات الأمنية، خصوصاً بعد تفجير "بنك لبنان والمهجر"، أمراً واقعاً. لكن ما حصل بسبب جغرافيا القاع وموقعها سرعان ما تحول الى مؤامرة كونية لتهجير المسيحيين، بينما لم تُربط التفجيرات الاخرى بطائفة المستهدفين. وكان ذلك مناسبة للإسراع بالمطالبة بالأمن الذاتي وبتسليح الأفراد كما شهدنا استعراضات مسلحة في حنين مرضيّ الى زمن الميليشيات. أما حَملة السلاح فكانت المناسبة الامثل لتبرير سلاحهم.
لهذا وجدنا من أسرع لمبايعة "حزب الله" في حربه السورية متناسياً ان هذه المشاركة بالذات هي المسبب الأساسي في اللجوء السوري في منطقة القاع خصوصاً، في حربه الدفاعية، ومن خلفه ملالي ايران وجنرالاتها، عن النظام السوري الذي ترفضه غالبية السوريين.
وبعد احد عشر عاماً على إخراج الجيش السوري، هناك من يقتنص المناسبة ليعلن رغبته في ربط الجيش اللبناني بالجيش السوري في تجاهل مقصود لكون وظيفة ووطنية واعتدال الجيش اللبناني تمنع ذلك. كما أن النظام السوري هو من يقوم بتهجير السوريين عندما لا يتمكن من إخراسهم أو القضاء عليهم، وسبق أن رفض بوضوح عودتهم من لبنان.
للتداعيات الناتجة عن أي حدث في لبنان خريطة طريق ترتبط بما نعانيه من نقاط ضعف وحساسيات. ويبرز بالمناسبة ميل اللبنانيين إلى ربط الحوادث الصغيرة بخطط كبرى. وما حصل في القاع بسبب موقعها الجغرافي، سرعان ما اعتُبر مؤامرة كونية لتهجير المسيحيين، ما أعقبه الإسراع بالمطالبة بالأمن الذاتي وتسليح الافراد.
المتلازمة الثانية عند كل اعتداء أمني توجه أصابع الاتهام الى اللاجئين السوريين، فتستفيق عدوانية البعض ضدهم. كأن هؤلاء استفاقوا ذات يوم وقرروا حمل امتعتهم ومغادرة منازلهم للقيام ببيك - نيك picnic في ربوعنا. فتجتاحنا موجة تحريض على اللجوء السوري في نوع من تعميم الكراهية والعنصرية والتمييز ضد اللاجئين بالجملة، وحتى منعهم من التجول كما هو حاصل في بعض البلديات، في تمرين فيديرالي تقسيمي فاضح، الأمر الذي يعمق المشاكل ويفاقمها بدل العمل على احتوائها.
هذا الطرح العنصري والضوضاء التي يثيرُها يغطي على التعامل الإيجابي والتقبل الحاصل عموماً للسوريين. دلوني على أي مجتمع في العالم يمكنه استقبال ما يقارب نصف عدد سكانه في مساحة ضيقة، وفي مدة زمنية قصيرة، دون ان ينفجر.
إن نسبة اللاجئين إلى نسبة السكان في لبنان هي الأعلى في التاريخ الحديث والقديم. مع ذلك، نجد أن السوريين متواجدون من حولنا كيفما نتوجه في المحال والمقاهي والمطاعم والسوبرماركت، كزبائن وعمال وأصحاب مهن، ويتم التعامل معهم بشكل طبيعي، على الرغم مما يحمل ذلك من مخاطر المنافسة وازدياد البطالة وتدني نوعية الحياة للجميع.
لكن لا يتم، ومن منظار الخبطات الإعلامية والتملق، سوى إظهار التجاوزات والاستغلال التي نلاحظها في أكثر المجتمعات تحضراً، والأمثلة لا تحصى. ألا نسمع عن التجاوزات ضدهم في الغرب؟ ألم تصوت بريطانيا للخروج من الاتحاد الاوربي خوفاً منهم؟
الخوف من الآخر واستغلال الأضعف من صفات الإنسان ونقاط ضعفه، ومن يستغل السوريين والسوريات من أطفال ونساء وشيوخ، هم سوريون ولبنانيون وغير ذلك. لا دخل للجنسية هنا، ولا للعنصرية. إنها الشروط الموضوعية التي تضعف القيم وتقلبها، وتجدون الإجابة في ابحاث علم النفس ودراساته.
الظاهرة الاخرى التي نعاني منها ماكينة الشائعات التي تعمل بأقصى طاقاتها عند كل استحقاق. لكن المثير للحيرة أن المسؤولين لا يقومون بالدور المطلوب وكما ينبغي في معظم الأحيان لطمأنة المواطن. و بدل بذل الجهد في التوفيق بين دواعي الأمن القومي وبين ضرورة إطلاع الجمهور على حقيقة ما يحصل فعلياً، يُتركُ فريسة للانفلات الحاصل في التقديرات والتحليلات الأمنية الصحافية والسياسية على غاربها، ما يزيد في احتمالات البلبلة والفوضى.
في كل الاحوال ومهما تكن أهداف التفجيرات، لا بد من الاشارة إلى الإيجابيات التي كشف عنها لجهة دور المواطن الأساسي في المساهمة بمحاربة الارهاب وكشفه، حيث لعب في القاع دوراً هاماً في تعطيل خطط الارهابيين.
وبما أن "طريق القضاء على داعش لا يزال طويلاً" كما يطمئننا المسؤولون الأميركيون، لا بد من ممارسة أقصى ما يمكن من مهنية إعلامية من جهة، كما تهيئة خطة مدروسة تتضمن إرشادات لشرح كيفية التصرف مع تعميم أرقام للاتصال عندما يشك أي مواطن في سلوك مثير للريبة.
لا يحتاج الجيش الى دعاية لإقناع المواطن بجدارته، إذ من الواضح للعيان أن المدافع عن أمن لبنان هو الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية بلا جدال. الأولوية هي للمؤسسات الشرعية، فالأمن الذاتي وهمٌ، وعودة إلى الوراء. أما الاعتماد على بروباغندا عملاء "حزب الله" ذوي الانتماء والأجندة غير اللبنانيتين لحماية لبنان، (لاحظوا التناقض!)، فليس سوى استكمال لمؤامرة القضاء على لبنان كدولة وكيان ونظام ليبيرالي، لجرّه للاحتذاء بالنموذج الايراني الاستبدادي الفاشل.
برهنت الانتخابات البلدية إن نسبة اللبنانيين الذين يرفضون الوضع الراهن هم أكثرية؛ إذ استطاعوا مواجهة السلطة السياسية بقضها وقضيضها وأساليبها الملتوية وقالا لهم، من فضلكم، نستحق أفضل من ذلك.
منى فياض