ماذا تريد المخابرات الأميركية (سي آي إيه) أن تقول٬ وهي تكشف السرية هذه الأيام٬ عن الوثائق الخاصة بما دار في أروقة البيت الأبيض من ناحية٬ والسفارة الأميركية في طهران٬ من ناحية ثانية٬ قبل أسابيع من سقوط الشاه محمد رضا بهلوي؟
الإفراج عن مثل هذه الوثائق٬ كل فترة زمنية محددة له٬ في ظني٬ حكمة سياسية معينة٬ كما أن عملية الإفراج في حّد ذاتها٬ تظل وراءها «رسالة»ُيراد لها دائًما أن تصل إلى العالم.
ولكن.. بصرف النظر عن الحكمة من هذا النوع٬ وعن الرسالة في مثل هذه الحالة٬ فإن الوثائق التي نشرت «الشرق الأوسط» جانًبا منها٬ على يومين متتاليين٬ لا بد أن تستوقفك تفاصيلها المنشورة٬ لأن خلفها٬ كما سوف نرى٬ معنى عاًما ومثيًرا لأكثر من علامة استفهام.
فالحركة من جانب البيت الأبيض٬ لإسقاط واحد من أهم حلفائه في المنطقة كلها٬ لم تكن في داخل واشنطن فقط٬ ولكنها كانت في اتجاهات ثلاثة متوازية.
كان الاتجاه الأول٬ على مستوى المكتب البيضاوي للرئيس جيمي كارتر٬ الذي عقد كما تشير الوثائق٬ عدة اجتماعات مع أركان إدارته٬ تقرر فيها التخلي عن «بهلوي» وإجباره على مغادرة بلاده٬ وكل ما كان وولتر مانويل٬ نائب الرئيس يوصي به٬ خلال الاجتماعات٬ هو أن يخرج الشاه بطريقة لا يعرف منها أن الولايات المتحدة تقف وراءها!
أما بريجينسكي٬ مستشار الرئيس للأمن القومي٬ فكان ضد التخلي عن الشاه٬ وإن كان قد سكت عن الأسباب التي دعته إلى أن يتبنى موقًفا كهذا لم يشاركه فيه أحد بين جميع الذين حضروا واجتمعوا.
وكان الاتجاه الثاني في باريس٬ حيث كان يقيم الخميني٬ وحيث كان يتأهب للعودة٬ لقيادة الثورة ضد الشاه.. فهناك٬ بدأت في 15 يناير (كانون الثاني) ٬1979 أي قبل عودته لإيران بأسبوعين٬ اتصالات مباشرة بينه وبين رجال من الإدارة الأميركية٬ وتقول الوثائق في تفاصيلها٬ إن الاتصالات بدأت بعد أن تأكد الأميركان أن الخميني مستعد تماًما
للتعاون معهم٬ وأنه يفتح يده في هذا الاتجاه٬ دون تحفظ٬ وأن عدم تحفظه يصل إلى حد إبداء استعداده لبيع بترول إيراني لإسرائيل!
على مستوى ثالث٬ كانت السفارة الأميركية في العاصمة الإيرانية٬ تمارس ذروة نشاطها في اتجاه التواصل مع معارضي الشاه٬ في أكثر من موقع٬ وأكثر من مؤسسة٬ وأكثرmمن جهاز حكومي٬ وكانت الطبخات الثلاث٬ على حد وصف تفاصيل الوثائق٬ تنضج في أوقات متوازية٬ وفي العواصم الثلاث مًعا: واشنطن٬ ثم باريس٬ فطهران!
وكانت التفصيلة الأكثر إثارة للانتباه٬ أن إدارة الرئيس كارتر كانت ترى أن تعاوًنا بين الملالي من رجال الخميني٬ والمؤسسة العسكرية٬ في إيران٬ يمكن أن يكون ضامًنا لاستقرار أكبر٬ في البلد٬ ثم في الإقليم من حول البلد.. وعلى هذا الأساس بدأت الحركة في الاتجاهات الثلاثة٬ وبلغت غايتها في 31 يناير٬ من ذلك العام٬ عندما عاد الخميني من منفاه الباريسي٬ على متن الخطوط الجوية الفرنسية!
الآن.. وعند هذه المرحلة من التعليق على الوثائق٬ أريد منك أن تقفز من عام ٬1979 إلى عام ٬2011 وتحديًدا إلى اليوم الأول من فبراير (شباط)٬ من ذلك العام.. ففيه٬ دعا الرئيس أوباما٬ الرئيس مبارك إلى أن يتخلى عن منصبه.. تماًما٬ وبالضبط٬ كما جاءت دعوة من كارتر٬ إلى شاه إيران قبلها بـ32 عاًما!
وتستطيع أن ترفع اسم بريجينسكي٬ أيام كارتر٬ وتضع مكانه السفير فرانك وزنر٬ أيام أوباما.. فكلنا يعرف٬ أن وزنر كان ضد تخلي مبارك عن الحكم٬ أو بمعنى أدق٬ تخلي بلاده عن مبارك٬ كما كان بريجينسكي٬ ضد تخلي إدارة بلاده عن الشاه!
ومثلما كان وولتر مانديل٬ يسعى إلى أن يغادر الشاه بلده بطريقة لاُيعرف منها أن وراءها الولايات المتحدة٬ كانت هيلاري كلينتون تتبنى الموقف ذاته تقريًبا٬ إزاء مبارك٬ وإن قالت لنا في كتاب مذكراتها٬ وفي غير كتابها٬ شيًئا آخر!
وكما كان الخميني مستعًدا لبيع البترول إلى إسرائيل٬ كان محمد مرسي يخاطب الرئيس الإسرائيلي٬ شيمعون بيريز٬ في خطاب رسمي٬ ويقول: صديقي العزيز بيريز أتمنى لبلدك كل الرفاهية!
لك أن ترفع من تشاء٬ من الأسماء الواردة في القصة كلها٬ عام ٬1979 وتضع مكانها٬ من تشاء٬ من الأسماء الواردة في القصة الأخرى٬ عام ٬2011 بالتوازي٬ فلا يختلف المعنى على أي نحو!
ثم إن لك أن تتساءل في حيرة: إذا كانت الولايات المتحدة الأميركية٬ كما قيل عنها بحق٬ لا تصل إلى الطريق الصواب٬ إلا بعد أن تجرب كل الطرق الخطأ٬ فهل نحن في المقابل لا نملك ذاكرة تحفظ٬ من أجل أن تعي٬ إلى هذا الحد؟! وإذا كانت «التجربة والخطأ» هي أداة لا تتغير لدى الإدارات الأميركية المتعاقبة معنا٬ فما الذي يتغير فينا نحن في المقابل٬ في هذه المنطقة؟
في القصة كلها أن الولايات المتحدة دعمت رجال الدين٬ للوصول إلى السلطة في إيران٬ بغرض تحقيق استقرار أفضل في البلاد٬ ورغم أنه قد تبين لها أن ما راهنت عليه لم يتحقق٬ كما تصورت٬ فإنها عادت في عام ٬2011 لتدعم رجال دين آخرين من «الإخوان»٬ للوصول إلى السلطة٬ في القاهرة٬ خلًفا لمبارك٬ وأيًضا لتحقيق استقرار أكبر في البلاد٬ وكأنها لا تقرأ.. ولا تتعلم!
سليمان جودة