في 30 آذار 2011، ألقى الرئيس السوري بشار الأسد خطابه الأول بعد اندلاع المواجهات في بلاده. قال فيه: «إن الأزمات هي حالة إيجابية إن استطعنا أن نسيطر عليها وأن نخرج منها رابحين... والأفضل أن تبقى من دون حلول إن لم تكن تعرف تماما أنك ستجد حلا للمشكلة». سارع خصومه للقول بأنه «منفصل عن الواقع» وتوقعوا قرب رحيله. لم يرحل. ها هو يسخر من رئيس وزراء بريطانيا ويقول: «هم المنفصلون عن الواقع وإلا لما طلبوا إجراء هذا الاستفتاء» واصفا خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي بـ «الثورة من قبل الناس ضد سياسيين من الدرجة الثانية». لا شك بأن مؤشر التفكك الأوروبي يفرح الأسد ويقدم هدية ثمينة حاليا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ما هي أبرز المتغييرات:
باستنثاء وزير الخارجية السعودية عادل الجبير، فإن المطالبات الدولية برحيل الأسد صارت شيئا من رفع العتب. الإرهاب هو الأولوية. الأسد يتحدث عن تعاون غير مباشر مع دول غربية. الجيش السوري يقاتل بثبات استثنائي عجزت عنه دول كبرى. ها هو أحد أبرز رؤساء الوزراء الفرنسيين السابقين المنظّر الاشتراكي ميشال روكار يقول في حديث لمجلة «لوبوان» الفرنسية: «لقد أسأنا تقدير قدرة الأسد، فوسط هذا التنوع الطائفي في سوريا ولبنان، كان بشار هو سبب الحفاظ على النظام، ولم ننتبه: تسرّعنا فبادرت فرنسا الى تأسيس ودعم التحالف الوطني السوري المعارض الذي نصف أعضائه خرجوا من السجون ولا يتمتعون بثقافة ذات تأثير، ووزير خارجيتنا لوران فابيوس أثار دهشة مخابراتنا الخارجية بشل عملها»، وحين يقول الصحافي إن معظم فصائل المعارضة هم أقنعة للقاعدة وغيرها، يجيب روكار بلا تردد :«نعم». لا شك بأن تفكك المعارضة السورية وتشتتها قدّما للأسد أفضل خدمة لم يكن يحلم بها يوما.
انفراج للأزمة الروسية التركية بعد اعتذار رجب طيب أردوغان عن إسقاط المقاتلة الروسية، وذهاب وزير الخارجية التركي الى موسكو، تخللهما حديث عن اتصالات عسكرية بين الجانبين وتسريع الحل السياسي في سوريا. تريد موسكو وطهران استيعاب أنقرة لتحييدها وإضعاف الدور السعودي. هذا مهم اذا كان قرار حلب قد اتخذ فعليا وفق ما أوحى السيد حسن نصرالله في خطابه ما قبل الأخير. يبدو أنه اتخذ فعلا وفق مصادر سورية.
زيارة أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني الى موسكو ولقاؤه كبار المسؤولين وبينهم وزير الدفاع سيرغي شويغو والممثل الخاص للرئيس الروسي الى سوريا الكسندر لاورنتيف، ناقشت استراتيجية هجومية جديدة في سوريا على أساس أن المناخ الدولي والإقليمي مؤات. كان وزير الدفاع الإيراني، حسين دهقان، قد قال إن «المناطق التي يحتلها الإرهابيون في حلب السورية ستتحرّر على يد قوات محور المقاومة» وهو ما قاله أيضا قبل أسبوعين السيد حسن نصرالله.
غداة استقبال الرئيس الأميركي باراك أوباما لولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في 18 حزيران الماضي، أوفد بوتين وزير دفاعه شويغو في مهمة مفاجئة الى سوريا. أمور كهذه لا تحصل بالمصادفة. كل هذه اللقاءات الايرانية الروسية السورية جاءت بعد ضبابية الموقف الروسي في حلب. وهو ما عبّر عنه نصرالله بأسئلته العاتبة والغاضبة ومنها: «من استفاد من وقف إطلاق النار في حلب»؟
الأسد يفاجئ الجميع بقوله في مقابلته مع التلفزة الاسترالية إن أميركا «ليست عدوتنا ولا تحتل أرضنا» وان التعاون معها ممكن لكن على قاعدة المصالح المشتركة. فهل يغازلها، ام يسهّل عمل حليفه الروسي معها، أم يقول ذلك فقط لأنه يتوجه الى جمهور غربي؟ كل هذا ممكن بالرغم من صعوبة استعادة الثقة حاليا.
هل من شيء تحت الطاولة؟
الأكيد لا. سوريا ستبقى طويلا ساحة صراع أطلسي روسي. حالياً، جدد الأوروبيون العقوبات على روسيا، نشر الأطلسي كتائب وبطاريات في دول البلطيق وبولونيا، ويقوم بمناورات عسكرية في البحرين الأسود والبلطيق. كل ذلك دفع بوتين الى التحذير قائلا: «إن التوجه المعادي من قبل الأطلسي لروسيا انكشف تماما. لكننا لن نظهر ضعفاً. ولا يزال بإمكاننا حماية أنفسنا على نحو جيد». هذا ما يقصده الأسد بقوله إن ايران وروسيا تقاتلان أيضا في سوريا لمصالحهما. العودة الروسية الى المعركة حتمية ولو بعد حين.
مهما أنجز الجيش السوري وحلفاؤه في الرقة والريف والجبهة الجنوبية وغيرها، تبقى حلب هي الفيصل، ليس بين الأطراف السورية، بل على المستويين الإقليمي والدولي. هذا بالضبط مكمن الخطورة التي بدأت ترسل إشاراتها صوب القاع اللبنانية ومطارات تركيا وربما قريبا في أماكن كثيرة أخرى، فالإرهاب الذي أصيب بنكسة كبيرة في الفلوجة، يسعى لتفادي نكسة أكبر وأخطر في حلب أو الرقة وغيرهما. هو يريد تنويع الجبهات وتكثيف الهجمات لكنه لا شك يصاب حاليا بضربات موجعة.
أما المفاوضات السياسية، فيكفي أن نقرأ رأي الأسد بالمعارضة في مقابلته الأخيرة حين قال انها «تعمل بالوكالة عن دول أخرى» وان «لا قيمة لها في سوريا»، حتى نفهم أنه لا يزال عند فكرته الاولى منذ عام 2011، عدم القبول بأي حل ان لم يكن مناسبا. ولعل المعارضة بتفككها وتشتتها بين عواصم وزواريب كثيرة، قدمت له أجمل هدية.
قال الأديب والفيلسوف الفرنسي فيكتور هوغو يوما «إن الحرب هي حرب البشر، والسلام هو حرب الأفكار». يبدو أننا لا نزال في حرب البشر ولفترة غير قصيرة في حرب من الصعب تصور منتصر فيها وسط الصراع الدولي، لكن الأصعب تصور مهزوم. من هنا شراستها المقبلة.

السفير