إثر تلبية رئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط إفطار «حزب الله» الذي أُقيم غروب يوم ٢٠ حزيران الماضي في مقرّ كتلة «الوفاء للمقاومة» في الضاحية الجنوبية، صدرت تسريباتٌ صحافية مستقاة من مصادر في الحزب تقول إنّ تلبية جنبلاط للإفطار لا تأتي في سياق الإعداد للقاء بينه وبين السيد حسن نصر الله، علماً أنّ هذا النفي لا يعني وجود فيتو من الحزب على اللقاء، لكنّ ظروفه الموضوعية ليست مؤاتية.في مقابل هذه التّسريبات، تحدّثت أجواء في «حزب الله» أنّ جنبلاط يرغب فعلاً في عقد لقاء مع نصر الله في هذه الفترة، وأنه أفصَح عن رغبته هذه لقنوات الاتصال المعتمدة بين المختارة وحارة حريك، وفي تفسيره لموجبات هذا اللقاء، أوحَى جنبلاط بأنّ لديه أفكاراً لحلّ الأزمة يرى أنه قد يكون مفيداً عرضها على نصرالله.

وهناك في الواقع سؤال يطرح نفسه، تعقيباً على حضور جنبلاط مع وفد ضمّ أبرز أركانه إضافة إلى نجله تيمور، إفطار ٢٠ حزيران، وهو عن المعنى السياسي الذي يضمره من حضوره الافطار، سواءٌ لجهة توقيته أو رسالته السياسية؟

المصادر التي جمَعت معلومات على صلة بإعطاء اجابة عن السؤال الآنف، تقدم رواية كاملة لما تعتقد أنها الخلفيات التي تُفسّر خطوة جنبلاط في اتجاه «حزب الله».

تستند هذه الرواية الى معطيين أساسيَّين؛ أوّلهما له منزلة اقليمية داخل حسابات المختارة، والثاني يتعلق برغبة جنبلاط في إيجاد إسقاطات محلية له:

– تقول حيثيات المعطى الأول إنّ جوهر القصة يتصل بمستجدات طرأت على حسابات المختارة الاقليمية التي بقيت طوال العامين الماضيين تراعي جانب ألّا تقوم بمبادرات تجاه «حزب الله» تؤثر سلباً على جهود جنبلاط الحثيثة لحماية مصالح دروز سوريا.

فحينما نشبت أحداث السويداء العام الماضي واستشعر جنبلاط بأنّ دروز سوريا قد يدفعون من وجودهم ثمن الحرب الداخلية السورية، رأى أنّ الحكمة تقتضي منه إعطاء الأولوية في كلّ تحرّكاته للحفاظ على الوجود الدرزي في سوريا المهدّد من التيارات الإسلامية السلفية الصاعدة في كلّ المنطقة.

ورأى جنبلاط أنَّ أفضل طريق لبلوغ هذا الهدف، هو تجنّب استفزاز التيار الإسلامي السلفي المتعاظم في سوريا. وذهب بعيداً في تجسيد هذه السياسة، حيث عرض ما يُشبه الهدنة غير المعلنة بين طائفة الموحدين الدروز والإسلاميين السلفيّين. وتوجّهه هذا هو الذي يُفسّر حينها دعوته العلنية إلى «الدروز للعودة إلى الإسلام» والتي لاقت حينها استغراب مشايخ الدروز.

ومن ثمّ أتت مبادرته التالية في سياق أساليبه في توجيه الرسائل الرمزية، والتي بموجبها شرع ببناء جامع لصيق بدارة المختارة، علماً أنه تباطأ في اتمام بناء قبته. وفي الوقت عينه كثّف من تصريحاته التي تُظهر أنّ المختارة تعيش أجواء التفاهم مع حارة حريك تحت سقف تعارض موقفهما من الازمة السورية ومن النظام السوري.

وضمن سياسة عدم استفزاز التيار السلفي في المنطقة، وسوريا خصوصاً، وحرصاً على إنجاح جهود اقليمية لأخذ ضمانات بعدم تعرّض دروز سوريا لمصير يشبه ما لحق بالايزيديين وأقليات مسيحية اخرى، قرّر جنبلاط النأي بنفسه عن «حزب الله»، أو أقله تحاشي ظهوره بأيّ صورة مع الحزب تُوحي بتواصل وثيق بينهما، وذلك تجنّباً لتأجيج نار غضب السلفيين السوريين ضد الدروز، خصوصاً «جبهة النصرة» التي بينها وبين «حزب الله» حساب مفتوح.

وتقول المعلومات إنّ جنبلاط في المرحلة الراهنة، وكنتيجة لمستجدات عدة أبرزها الوجود العسكري الروسي المباشر في سوريا، اصبح متحرّراً من عقدة خوفه على مصير دروز سوريا، وصار مطمئنا بالكامل الى أنّ مرحلة توجسّه بأنهم قد يتعرضون لنوع من حرب الإبادة ضدّهم قد انتهت واصبحت وراء ظهره. وهذا السبب قاده بالتالي للتحرّر من التحوّط الذي كان يبديه سابقاً تجاه فتح حوار مباشر مع «حزب الله» وعلى أعلى مستوى ليجرّب إنتاج حلٍّ محلّي للأزمة اللبنانية الراهنة.

– أما المعطى الثاني، فهو محلّي ويتصل بنصائح سمعها جنبلاط في لقاءاته الخارجية. وهذا المسار بدأ قبل نحو شهر تقريباً، حينما كان المعهد الثقافي العربي في باريس يستضيف مناسبة عرض فيلم وثائقي عن كمال جنبلاط. وعلى هامشها عقد لقاء غير رسمي ضمّ جنبلاط وجيفري فيلتمان وغسان سلامة وناصر السعيدي ورياض سلامة. وقد أطلق بعض المصادر اللبنانية في باريس على هذا اللقاء غير الرسمي تسمية «اللقاء الخماسي» (كشفت «الجمهورية» عنه في حينه).

آنذاك، لم تتسرّب أيّ اجواء حول طبيعة النقاشات التي دارت في اللقاء. لكن بعد مرور نحو اسبوعين، توضحت أبرز خلاصاته، ومفادها أنّ فيلتمان ابلغ محادثيه الأربعة بأنّ الصورة الاقليمية قاتمة، حيث الاشتباك الإيراني – السعودي لا يزال مستمراً، وأسوأ من ذلك، أنّ كلّ المحاولات الدولية المبذولة لإنتاج تسوية لهذا الاشتباك باءت بالفشل، وهذا الاشتباك مرشح للاستمرار في المدى المنظور، ومعه مرشح على نحو كبير أن تستمرّ انعكاساته السلبية على أزمات المنطقة ومن بينها أزمة الشغور الرئاسي في لبنان.

واستدراكاً، استخلص فيلتمان أن لا إمكانية في هذه المرحلة لإنتاج مسعى دولي أو مبادرة اجنبية لحلّ أزمة الرئاسة في لبنان، ويبقى الأمل الضئيل معقوداً على إمكانية أن يحاول اللبنانيون تدبر أمورهم بأنفسهم، وأن يحاولوا – إن استطاعوا – السعي لترتيب حلّ محلّي لأزمة الشغور الرئاسي.
وخلال نهايات هذا الشهر، ردّدت الخارجية الفرنسية بمناسبة الإعداد لزيارة وزيرها جان مارك إيرولت بعد ايام الى لبنان، امام محادثيها اللبنانيين المضمون نفسه لعبارات التشاؤم التي قالها فيلتمان.

وكانت أوضح في تفسير وجهة نظرها عندما ردّت تعثّر انتخاب الرئيس اللبناني الى حقيقة «أنّ طهران لا تزال غير معنية بفتح باب مجلس النواب أمام جلسة انتخاب رئيس، فيما الرياض لا تزال تريد الاستثمار في لبنان داخل دائرة جهودها لضرب النفوذ الإيراني حصراً».

أكثر من ذلك أرجأت باريس مؤتمر المانحين لدعم لبنان من موعده الأوّلي هذا الشهر الى الخريف المقبل، وقال مسؤولون فرنسيون حسبما ورد لبيروت في التقارير الديبلوماسية أنّه حتى لو عُقد المؤتمر في موعده الأصلي (تموز الراهن) فلن يؤدّي الى نتيجة عملية نظراً لغياب لبنان عن أولويات اجندة الاهتمامات الدولية والاقليمية.

وعن زيارة ايرولت للبنان، فإنّ باريس لا تدّعي أنّها ستساعد في تحريك انتخابات الرئاسة اللبنانية. ومع ذلك حاول إيرولت لمناسبة زيارة وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف الى فرنسا قبل ايام محاولة تكرار «ضربة حظ» عبر مفاتحته باقتراح أن تساعد طهران عملياً في انتخاب رئيس لبناني، ولكنّ ظريف كرّر عبارته ذاتها التي درجت إيران على استخدامها أخيراً كلما استمزجت باريس رأيها بالتدخل لإنهاء الشغور الرئاسي اللبناني، وفحواها «أنّ هذا الامر متروك للبنانيين». ومن خلال التجربة بات واضحاً لباريس أنّ ترجمة هذه العبارة تعني أنّ «ايران لا ترى أنّ وقت التسويات مع السعودية قد نضج لا في لبنان ولا خارجه».

في هذا الإطار، ليس صعباً الاستنتاج أنّ جنبلاط نقل انطباعاته عمّا سمعه من فيلتمان لجهة أن لا حلّ الآن سوى بجهد لبناني صرف، الى الرئيس نبيه بري الذي بدأ من جانبه يدلي بتصريحات ضخّت مناخ تفاؤل محتمل عن حلّ لأزمة الشغور الرئاسي في شهر آب المقبل. وكلّ هدف برّي من النفخ في هذا المناخ هو استكشاف ما إذا كانت هناك فرص لإنتاج حلّ محلّي للأزمة، ولذلك تصاحبت تصريحاته مع عودة تداول مصطلحات «دوحة لبنانية» «ورئيس صنع في لبنان»، الخ.

والى عاملَي التحرّر من عقدة الخوف على دروز سوريا والتيقّن بأنّ الحلّ يكون لبنانياً في هذه المرحلة أو لا يكون، ثمّة عامل ذاتي يدفع جنبلاط لمحاولة طرق باب حارة حريك، وهو رغبته في إعادة إنتاج دوره كبيضة قبان داخل التوازنات السياسية في البلد.

وعشية تعليقاته على مجريات الاستعدادات لعقد الانتخابات البلدية في لبنان، كان جنبلاط يتقصّد نعي دوره كخشبة خلاص سياسية وسطية، ودعا إلى الاعتراف بحيثيات سياسية مستجدة ينتجها الواقع الجديد على الارض. غير أنّ جنبلاط يظن أنّه يمكنه الآن إعادة دوره كبيضة قبان، نظراً لوجود حاجة لتسوية حلّ الضرورة بين «٨ و١٤ آذار» على رئيس للجمهورية ليس مهماً اسمه بل المهم مدى إسهام وظيفة انتخابه في إنهاء أزمة شلل مؤسسات الدولة.

ولا شك في أنه وصلت إلى جنبلاط أخبار التفكير الجديد لنصرالله عن رغبته بحلّ مع الحريري يقوم على سلّة مطالب أقلّ من تلك التي كان يعرضها قبل عام. فما يريده الحزب حالياً كشرط لقبوله بـ»إنتخاب رئيس ضمن حلّ أكبر لأزمة البلد» هو فقط موافقة تيار «المستقبل» على قانون انتخاب جديد.

يختم القائلون بالرواية الآنفة عن خلفيات رغبة جنبلاط بلقاء نصر الله بالقول، إنّه فيما لو وافق الاخير على لقاء سيد المختارة، فسيؤشر ذلك الى إمكانية وجود «أفق ما» لصالح تسهيل الحلّ المحلّي. وهذا سيؤسّس لمسار عقد جلسة انتخاب يؤمّن نصابها «المستقبل» ويتأمّن الفوز فيها للعماد ميشال عون بأصوات «حزب الله» وحركة «امل» وجنبلاط و»القوات اللبنانية» والنائب سليمان فرنجية.

اما فيما لو تمّ تأجيل موعد جنبلاط مع نصرالله تحت مبرّر انتظار نضوج ظروفه، فهذا سيعني أنّ تعقيدات المشهد السوري وانعكاساته السلبية على لبنان، لا تزال أقوى حضوراً داخل معادلة الأزمة اللبنانية. وبالتالي فإنّ تذليلها لن يحدث بمجرّد رغبة جنبلاط بالخروج من هدنته غير المعلنة مع «النصرة» ليبدأ مسار عودته الى حارة حريك «كمخلّص سياسي» يكون له ثلاثة أرباع حصة الدور في تسوية حلٍّ صنع في لبنان.

ناصر شرارة