قطيع من الانتحاريين اجتاح القاع. لم يلتئم تجمع المعممين ولم يجد حاجة لجولات مكوكية ومفاوضات مع الوحوش الضارية. صلاته مقطوعة هذه المرة مع شركائه من حاملي مفاتيح الجنة. أبواق الممانعة والمقاومة، هم أيضاً، لم يستنفروا هذه المرة وكأن التكفيري لا يكون تكفيرياً إلا إذا كانت عرسال ممره أو مستقره. الموت هنا غيره هناك. والانتحار هنا غيره هناك. من عرسال يكون الخطر سنياً عربياً على الشيعة وإيران، أما من القاع، فخطره اسلامي على المسيحيين وعلى الوطن، إذن لا ضرورة لأجتماع يعقده أصحاب العمائم البيضاء. الدور هذه المرة لمجلس كنسي أو لمن ينوب عنه في الشحن الطائفي.
كان الزجل الطائفي والديني في ذروته يوم القاع. نعم. السلاح في مواجهة تكفيريي القاع مشروع وشرعي ومباح وعلني. أما البندقية العرسالية فخائنة إن لم تكن من سلاح المقاومة أو سراياها المناضلة. استحضار المصطلحات المناسبة للمناسبة: الدفاع المشروع عن النفس والقرار المسيحي وأمن المجتمع المسيحي فوق كل اعتبار والخطر الوجودي، ثم السباق الحزبي إلى الصور الاعلامية بالسلاح ومن دونه، واعتبار التسلح ظاهرة عفوية وطبيعية ويمكن أن تتكرر إذا تكررت ظروفها( سبحان الله هي قانون مثل كل القوانين، متل الجاذبية أو السقوط العامودي). على كل حال، السلاح دائما مشروع إذا كان في يد المقاومة، المقاومة اللبنانية في القاع والاسلامية في عرسال، وما على مروجي السلاح والنظريات التسليحية إلا التلطى وراء الجيش والقوى الأمنية.
محاصصة بلغة جديدة لكن ليست حديثة. هل يعقل أن تكون "القرى الشيعية قلبها وعقلها مع "حزب الله"، فيما القرى المسيحية ضد أحزابها السياسية" ؟ طبعاً لا . معاذ الله! "ففي كل بلدة مسيحية تتوسطها كنيسة هناك "قوات" و"كتائب" و"تيار وطني" و"أحرار"، بحسب قول صحافي "مسيحي" مرموق. حديث مكرر "بطبعة مسيحية هذه المرة، فيما كان بطبعة سنية في المرات السابقة"، بحسب قوله أيضاً. ولم يتردد هذا الصاحفي اللامع في القول إن "الدفاع عن لبنان مسؤولية الجيش اللبناني وحده، وإذا تعذر ذلك البارودة المسيحية وحدها تحمي البيئة المسيحية".
مصطلحات متل المسيحي والوطن القومي المسيحي والأمن المسيحي ومصالح المسيحيين، كلها وسواها مشتقة من اللغة ذاتها التي مهدت للحرب الأهلية. لم يتعلم الغلاة. ربما من الظلم أن يكون حزب الله وحده متهماً بالتطرف وبإثارة النعرات الطائفية والمذهبية. فهو دخل إلى السوق فباع واشترى. اختار أن يكون ضحية الاستبداد الذي مارسه النظام السوري بحق الشعب اللبناني بمختلف قواه وأحزابه وطوائفه. اختار أن يكون الضحية أسوة بالآخرين، لكن لأسباب مختلفة عن أسبابهم. هم كانوا يجهلون طبيعة النظام السوري، بعضهم كان يعتقد أنه حامي حمى العروبة والعمود الفقري للنضال ضد الامبريالية والصهيونية والاستعمار، وبعضهم استدرجه ليحمي نفسه والدولة والمسيحيين، فانطبق عليه قول المتنبي، ومن يجعل الضرغام للصيد بازه ..... تصيّده الضرغام في ما تصيّدا. أما حزب الله فلأسباب أقل شأناً حين ارتضى أن يكون أداة في يد ولاية الفقيه وأعلن ذلك متباهياً من دون خجل.
كلاهما لم يتعلم من دروس الحرب الأهلية. لا بأس بالتذكير، إن نفعت الذكرى: ما من حرب أهلية انتهت بغالب ومغلوب، والمظلومية "المسيحية" خاطئة أصلا وفصلا لأن الرابح في الحروب الأهلية هو دوما تدخل خارجي. تم تلزيم لبنان إلى سوريا. فكانت الرابح الوحيد، وأدواتها من اللبنانيين لم يكونوا سوى أدوات رخيصة وأبواق. واليوم يتم تلزيم سوريا للقوى الدولية المتنازعة والمتنافسة، اليمن للسعودية والعراق بين إيران وأميركا.
الدرس الثاني هو أن لبنان كسائر العالم العربي ينتظر تسويات لأن الحروب الكبرى ممنوعة. حزب الله وقع في المحذور الذي وقع فيه اليسار اللبناني يوم اعتقد أنه يبني المستقبل القومي الاشتراكي ويمهد لتحرير الأمة من الاستعمار والصهيونية. كبّر الحجرفلم يعد قادراً على حمله. لغة الحرب والمصطلحات المذهبية والطائفية لا تصلح لصوغ خطاب وطني، ولا تحصن وحدة وطنية. إذن هي لاتبني دولة ولا وطناً، وبالتالي ينبغي سحبها مع الناطقين بها من التداول.
حسناً فعل حزب الله وهو يطمئن القاع وأهلها والمسيحيين. كان عليه أن يسوق الخطاب ذاته حيال عرسال، أي ألا يكيل بمكيال الولي الفقيه، بل بمكيال المصلحة الوطنية العليا التي تتطلب منه العودة إلى داخل الحدود ليدافع مع أبناء بلده عن وحدة الوطن، الوحدة التي لا تبنى بغير الديمقراطية.
الفدائي الذي حمى القاع شيعي من الجنوب. ولأنه حماها بانتمائه الوطني لا المذهبي من خارج التعصب والتطرف والانتماء الحزبي، فهو أسقط اللغة الدينية والطائفية في القاع.