تُذكّر السجالات السياسية والإعلامية على هامش التفجيرات الإرهابية التي شهدتها بلدة القاع الحدودية في شأن «الأمن الذاتي» بتلك التي سبق للبنان أن شهدها في نهاية ستينات وبداية سبعينات القرن الماضي.يومها كانت «المقاومة الفلسطينية» تستبيح السيادة اللبنانية وتنتشر عسكرياً على مساحات واسعة من الأراضي اللبنانية وتُنفّذ عمليات عسكرية عبر الحدود الجنوبية مستهدفة إسرائيل متلطّية بـ«اتفاق القاهرة»، فتأتي الردود الإسرائيلية لتشمل بنتائجها التدميرية اللبنانيين في قراهم وبلداتهم ومؤسساتهم وأرزاقهم.
ويومها، اعتبر فريق من اللبنانيين ما تقوم به المنظمات الفلسطينية انتهاكاً لسيادة الدولة اللبنانية وصلاحياتها واستدراجاً لردود عسكرية إسرائيلية يدفع ثمنها اللبنانيون من جهة، ويؤدّي الى صدامات داخلية وصلت الى حدود المواجهة مع الجيش اللبناني من جهة أخرى.
ويومها، وفي مواجهة عجز المؤسسات الشرعية السياسية والعسكرية والأمنية اللبنانية عن حسم أمرها في مواجهة السلاح الفلسطيني الذي ينتهك سيادة الدولة، برزت نظرية «الأمن الذاتي» من خلال لجوء عدد من الأحزاب اللبنانية الى التسلّح للدفاع عن مناطق حضورها في مواجهة الإنفلاش العسكري الفلسطيني.
واليوم، وعلى الرغم من أنّ أيّاً من الأحزاب والقوى السياسية التي لها حضور في بلدة القاع ومحيطها لم يدعُ الى اعتماد «نظرية الأمن الذاتي» في مواجهة العمليات الإرهابية، فإنّ أبناء البلدة الذين لجأوا عفوياً الى سلاحهم الفردي لمواجهة «تدفق» الإنتحاريين في انتظار تدخل الجيش اللبناني والقوى الأمنية الشرعية وإمساكها بالوضع الميداني، ووجهوا بأصوات رافضة للظهور المسلّح الذي شهدته بلدة القاع.
والخطورة في هذه الأصوات ليست في أنها تُنادي بمسألة مبدئية لا جدال في شأن أحقيّتها، وإنما في كونها صدرت عن جهات رسمية قاربت جانباً من الواقع متجاهلة الجانب الآخر.
فدعوة وزير الدفاع سمير مقبل أهالي القاع فور وصوله الى البلدة لتفقّدها الى عدم الظهور المسلّح، ومن ثمّ البيان الصادر عن الإجتماع الأمني في السراي الحكومي برئاسة رئيس الحكومة تمام سلام وحضور وزيرَي الدفاع سمير مقبل والداخلية نهاد المشنوق الذي جاء فيه: «إنّ الاعتداء الإرهابي على القاع يجب ألّا يكون ذريعة لأيّ شكل من أشكال الأمن الذاتي المرفوض»، شكّلا «دعسة حكومية ناقصة» في التعاطي المجتزأ والمنحاز مع الملف الأمني خصوصاً أنّ مثل هذه «الملاحظة» لم تصدر عن الحكومة بعد الإنتشار العسكري لـ«حزب الله» عقب التفجيرات التي سبق أن شهدتها الضاحية الجنوبية والهرمل وغيرهما،
وخصوصاً أنّ المسؤولين الذين زاروا القاع اجتازوا أكثر من حاجز مسلّح لـ«حزب الله» على الطريق الدولية بين رياق واللبوة من دون أن تكون لهم أيّ ردة فعل على هذا المشهد الخارق لسيادة الدولة اللبنانية والمسيء لصورة القوى الشرعية الأمنية والعسكرية التي يشرف عليها سياسياً سلام ومقبل والمشنوق.
إنّ هذه المقاربة الحكومية المجتزأة لمفهوم «الأمن الذاتي» من شأنها أن تزيد الشرخ القائم في لبنان، وأن تُعمّق شعور قسم من اللبنانيين بالقهر والظلم في مقابل شعور قسم آخر بالإستقواء والإستكبار بسبب اعتماد «معيارَين» في توصيف «الأمن الذاتي»، بحيث يظهر أنّ الحكومة تستثني «حزب الله» من مفهوم متطلّبات الأمن الشرعي وتسمح له - أو في أقل الأحوال- تدير الطرف عن إمساكه بالقرار الأمني والعسكري لأكثر من منطقة لبنانية لكي لا نقول للدولة اللبنانية بأسرها، في مقابل انتقادها شريحة من اللبنانيين لم تقم إلّا بحمل سلاح فردي في مواجهة مهاجمين إنتحاريين وصلوا الى أبواب منازلها في انتظار إمساك القوى الأمنية والعسكرية بمسرح الجريمة والإنتهاء من تمشيط مئات الكيلومترات المربّعة التي يمكن أن يستخدمها الإنتحاريّون لشنّ المزيد من العمليات الإرهابية.
وتشكل هذه المقاربة الحكومية المتجاهلة لما يتسبّب به سلاح «حزب الله» من مخاطر على لبنان واللبنانيين، جزءاً من الخطورة على الوضع اللبناني باعتبارها تستعيد الأداء الحكومي في التعاطي مع السلاح الفلسطيني بين العامين 1969 و1975.
في حين يُفترض بالحكومة اللبنانية وباللبنانيين أن يتعلّموا من تجارب الماضي ويعمدوا الى تطبيق «النموذج الجنوبي» على الحدود الشرقية والشمالية خصوصاً أنّ مثل هذا التطبيق لا يحتاج الى استصدار آليات دولية جديدة.
فقد سبق لمجلس الأمن الدولي أن أصدر القرار 1680 الخاص بترسيم الحدود بين لبنان وسوريا وحمايتها، كما سبق للقرار 1701 أن أعطى الحكومة اللبنانية الحقّ بطلب مؤازرة القوات الدولية العاملة في الجنوب لحماية الحدود الشرقية والشمالية ومنع انتقال السلاح والمسلّحين في الإتجاهين من دون الحاجة الى قرار جديد من مجلس الأمن الدولي.
لكنّ الحكومة اللبنانية فضلت التعاطي المجتزأ مع النتائج الأمنية للعمليات الإرهابية بدلاً من أن تقاربها بمعالجات سياسية وعسكرية تقفل الأبواب أمام مزيد من تعريض لبنان لنيران الحرب السورية وتحفظ الداخل اللبناني من مزيد من الإحتقان الناجم عن شعور قسم من اللبنانيين بالقهر نتيجة استقواء قسم آخر بالسلاح لفرض وجهة نظره على الدولة ومؤسساتها الشرعية وبالتالي على كلّ الشعب اللبناني.
فلماذا انتظار حروب ومآس لتطبيق القرارات 1559 و1680 و1701 في الداخل اللبناني على الحدود الشرقية والشمالية، على غرار تلك التي شهدها الجنوب على مدى أكثر من 25 عاماً لتطبيق القرار 425؟ أوليس من الأفضل للبنان واللبنانيين الإستفادة من تجارب الماضي لإدارة الحاضر وبناء المستقبل بدلاً من دفع أثمان جديدة لسياسات سبق اختبار نتائجها؟
نوفل ضو