"فجأة رأيته يركض في اتجاهي، اعتقدت للوهلة الأولى أنه مسعف، لكن حين لاحظت المحفظة التي يحملها على ظهره والتي وصلت الى رجليه، وشعره الطويل المجعد علمت انه انتحاري، بدأت أركض بكل ما اعطاني الله من قوة لكن للأسف تمكن من الوصول الى قربي وهو يصرخ "الله اكبر"، وضغط زراً فجّر كل شيء حولي، تشتت عقلي. للوهلة الاولى لم أعد ارى ولا اسمع، شعرت اني غادرت العالم الارضي، لكن ما هي الا لحظات حتى لملمت قوتي المصابة بالصميم، هرولت حتى وصلت الى منزل احد الجيران، رميت بنفسي ارضاً". مشهد دموي عاشه ايلي عاد في بلدة #القاع عند هجوم "الخفافيش" الارهابية فجراً وقيامهم بالتفجيرات الانتحارية.
أبى الانتحاري ان يفارق ايلي قبل أن يترك له ذكرى مريرة، عظمة من جسده غرزت في فخذ ايلي الذي يرقد واثنان من جرحى ذلك اليوم المشؤوم في مستشفى الجعيتاوي ببيروت نتيجة اصابتهم بحروق كبيرة.
في الطبقة الثالثة تحت الارض يتلقون العلاج وآمالهم كبيرة في الشفاء. وبضحكة المنتصر على الموت والاجرام، تحدث عاد (24 عاماً) العريف في قوى الامن الداخلي لـ"النهار" حيث قال " بعد ان دوّى الانفجار الثاني خرجتُ من المنزل لأرى ما يحصل، في الطريق شاهدت فتى يبلغ من العمر نحو 17 عاماً، يرتدي قميصاً قطنياً أسود، فجّر نفسه على بعد مترين مني ولو لم اغادر المكان بجروحي لكان الانفجار الرابع قضى عليّ". وأضاف " أصبت بحروق وشظايا في كافة انحاء جسدي واحمد الله انهم انتزعوا عظمة الانتحاري الذي زرعها في جسمي".
مروان يصارع الموت
في الغرفة المقابلة لإيلي يرقد مروان ليّوس (41 عاماً) شقيق جوزف الذي خطفه الموت في الليلة المأسوية، "حتى الآن هو لا يعلم ان توأم روحه غادره مرغماً، بعد ان خطفه حقد البرابرة، منذ الانفجار لم يتكلم، فالحروق التي اصيب بها بليغة، لاسيما في حوضه ورجليه"، بحسب زوجته ميشلين التي روت بأسى بعض تفاصيل اللحظات الاخيرة قبل التفجير. وقالت لـ"النهار" "كنا في المنزل، ما ان سمع مروان صوت تفجير حمل بارودته، طلب مني الاختباء مع أولادي الثلاثة وغادر، ليصلني بعد ساعات قليلة خبر اصابته ونقله الى المستشفى الحكومي في البلدة قبل أن نعاود نقله الى هنا، لا اعلم بأي تفجير أصيب، الامر سيّان فالحبيب في وضع خطير".
ابن الدفاع المدني الشجاع، المقدام، بحاجة الى سلسلة طويلة من العمليات، وتتحدث ميشلين عن طباع زوجها "اذا سمع صوت رصاصة يسارع لمعرفة ما يدور وضبط الأمور، فكيف اذا تعلق الأمر بتفجير". وأضافت "يعشق زوجي الدفاع المدني ومساعدة الناس وهو يعمل اضافة الى ذلك في محل لتصليح الدواليب لكن بعد هذه الاصابة التي نتمنى من الله ان يشفى منها من الصعب أن يعاود العمل في مهنته فرجله متضررة بشكل كبير".
ميشال المقاوم الثمانيني
بروح مرحة يستقبل العم ميشال شحود (80 عاماً) ضيوفه داخل الغرفة الصغيرة، هو المصاب بحروق في وجهه وأنحاء من جسده بعد ان سارع رغم عمره لانقاذ جيرانه حين سمع صوتاً اعتقد للوهلة الأولى انه قذيفة، اذ كما قالت زوجته التي كانت تنتظر في القاعة موعد الزيارات للاطمئنان عليه، "لم يخطرْ في بالنا لوهلة ان ما يحصلُ في الخارج عمليات انتحارية، وبما ان ميشال معروفٌ باندفاعه منذ شبابِه سارعَ لمساعدة جيرانه، وما إن وصلَ الى المكان وشاهدَ الجرحى محاولاً انتشال أحدِهم حتى وقعَ ما لم يكن في الحسبان، فجّر انتحاريٌ نفسه أمامه فانضم زوجي الى الجرحى".
في خاصرته الجرح عميق وكذلك في رقبته، وحروق حجزت لها مكان في انحاء من جسمه ولفتت زوجته والتعب باد على وجهها "عندما استيقظ أول كلمة قالها "يا الله"، فهو مزارع اعتاد مواجهة خشونة الحياة وصعابها وها هو يقاوم الأوجاع بعد أن كُتبت له الحياة من جديد ليكملَ ما تبقى له من عمر مع أولاده السبعة، فهو أفنى عمره ليفرح بشبابهم".
"قبل أن يحرق لبنان"
انتظر المطران الياس رحال راعي ابرشية بعلبك- الهرمل للروم الكاثوليك موعد الزيارات وقام بجولة على جرحى القاع، وكان لـ"النهار" حديث معه، حيث اعتبر ان "ما حصل فاجعة كبيرة، ثمانية كفار فجّروا أنفسهم بطريقة عشوائية والنتيجة خمسة شهداء وثلاثون جريحا بينهم خمس اصابات خطرة". واضاف "نطلب من الدولة اتخاذ الاجراءات اللازمة للحفاظ على ابناء المنطقة كلها، لأن من يؤذي القاع، يستطيع أن يؤذي لبنان كله، ومن الممكن أن يكون الانتحاريون متوجهين الى مناطق فيها عدد أكبر من السكان خصوصاً أنها كانت ليلة القدر، وقد كان من الممكن أن يفجروا أنفسهم بتجمعات كبيرة، لذلك نشكر الله أن ابناء القاع افتدوا لبنان و اللبنانيين".
ستبقى ندوب ذلك اليوم المشؤوم محفورة في نفوس أبناء القاع علّها تكون عبرة لتتأهب الدولة وتمنع باقي لبنان من الاحتراق!
(النهار)