يقول الخبراء في الأمن: المأزقُ الحقيقيّ في مواجهة العمليات الانتحارية أو حتى الاغتيالات السياسية، هو أنّ هناك ما يشبه الاستحالة في ضمان منعها في شكل حاسم وقاطع... عندما يكون هناك قرارٌ صارم بالتنفيذ «مهما كلَّف الأمر». فالتجارب في العالم تُثبت ذلك.
إنّ أكثر دول العالم قوّةً في عالم الاستخبارات، كالولايات المتحدة، تعرّضت في 11 أيلول 2001 لعمليات أذهَلت أجهزة الأمن وأصابت البنتاغون نفسه. كما أنّ فرنسا وبريطانيا وبلجيكا وسواها من دول أوروبا الغربيّة تُواجه في السنوات الأخيرة عملياتٍ انتحارية يصعب ضبطها.
وعندما قرَّر انتحاريّو «داعش» ضربَ مطار اسطنبول قبل يومين لم يستطع أحدٌ منعهم. وربما كانت «داعش» وراءَ سقوط طائرة الركاب المصرية فوق سيناء، قبل أشهر. وفي أيّ لحظة، قد تُفاجئ «داعش» أيّ دولة في العالم.
وبناءً على ذلك، تحاول مرجعيات أمنية أن تعرف: هل هناك ضرباتٌ أخرى ستنفّذها «داعش» في لبنان، في القاع أو خارجها، على رغم التدابير الأمنية المتّخذة؟ ولكنّ الأهم هو أنّ هذه المرجعيات تحاول أن تتقصّى مصادرَ موجة الشائعات التي أعقبت العمليات الانتحارية في القاع.
فقد كان مدهشاً حجمُ البيانات الأمنيّة المزوَّرة والتسجيلات الصوتية والشائعات عن ضرب مراكز أمنية أو مواقع عسكرية أو مؤسسات دينية أو تجارية أو سياحية جرت تسميتها بالاسم. وبالتأكيد، تبدو البيانات المزوّرة وشائعات كثيرة مشبوهة، وهي ليست من عمل هواة.
ولكن، في الجانب الحقيقي غير المدسوس، هناك تحذيرات ومعلومات وزّعتها المراجع الأمنية في الأسابيع الأخيرة، وأكّدتها بعد عمليات القاع، وتفيد بحراكٍ لخلايا «داعش» واحتمال تنفيذها عمليات إرهابية في مناطق عدة. بل تؤكد الأجهزة أنها عطّلت عمليات كانت «داعش» تنوي تنفيذها خارج القاع.
ويقول الخبراء: إذا كان صحيحاً أنّ هناك عشرات الخلايا «الداعشية»، غير المترابطة هيكلياً، تتحرّك في لبنان وتستعدّ لتنفيذ عمليات إرهابية، من اغتيالات وتفجيرات انتحارية، وإذا كانت كلّ خليّة تضمّ عشرات الانتحاريين، فهذا يعني أنّ مهمة كشفها ليست سهلة.
وإذا كان هؤلاء الإرهابيون يتغلغلون في مناطق داخلية شبه آمنة لهم لأنّ القوى الأمنية والعسكرية اللبنانية لا تدخل إليها، كمخيم عين الحلوة، أو لها مراقبة ضعيفة عليها كبعض المناطق الأخرى في البقاع والشمال، إضافة إلى المخيمات السورية، يصبح منعُ العمليات الإرهابية ممكناً جزئياً فقط.
وإذا كانت الحدودُ مفتوحة، وبلا ترسيم، بين لبنان وسوريا، خصوصاً في المناطق الجرديّة الحسّاسة (عرسال وجرودها- القاع ومشاريعها)، فهذا يعني أن لا جدوى من ضبط الأمن في الداخل ما دام نهر الإرهابيين يتدفّق في أيّ لحظة. وهذا تماماً ما حصل في القاع. فالانتحاريون جاؤوا من سوريا، وفق ما قال وزير الداخلية نهاد المشنوق.
إذاً، يمكن استنتاج ما يأتي: إنّ «داعش» اختارت هذا التوقيت تحديداً لعملياتها الانتحارية في القاع. وهي لو اختارت تنفيذَ عمليات قبل ذلك، لكانت دفعت بعشراتٍ من الانتحاريين ولكان نجح واحدٌ منهم أو اثنان أو أكثر.
فالمصفاة الأمنية اللبنانية، كما أيّ مصفاة أمنية أخرى في العالم، يصعب عليها ضبط الإرهابيين بنسبة 100 في المئة. وهذا يعني، استطراداً، أنّ «داعش»- بالمعيار التقني- قد تنفّذ عمليات أخرى في القاع وجوارها أو في أيّ مكان آخر في لبنان... إذا كانت مصرّة على تنفيذ عمليات جديدة.
وهنا يكمن تحدّي الدولة اللبنانية في اعتمادِ مواجهةٍ أشدّ عمقاً وجدّية من المداهمات والإجراءات الأمنية الاحترازية التي لا تبدو كافية، على أهميّتها.
فهناك نقاط ضعف تسمح لـ«داعش» بتنمية قدراتها وهامش تَحرُّكها على الساحة الداخلية:
1 - الخلاف الداخلي الواضح حول ملف اللاجئين السوريين والفلسطينيين، بين مَن يعتبره ملفاً كيانياً له تداعياته الأمنية والاجتماعية والجغرافية والديموغرافية، ومَن يعتبره- عن جهل أو تجاهل- ملفاً عادياً يكفي احتواؤه والإستفادة من «الرشاوى» الدولية المعروضة.
وسبق لبعض المسؤولين أن سأل: إذا كان في لبنان مليون ونصف المليون سوري، وإذا كان 3 في المئة أو 4 في المئة فقط منهم يتعاطفون مع «داعش»، فليُجرِ البعضُ حساباته بناءً على هذه المعادلة!
2 - استمرار الحصانة الأمنية على بعض المخيمات الفلسطينية، ما قد يحوِّلها أوكاراً «داعشية». ومعلومات الأجهزة عمّا يجري في عين الحلوة واضحة.
3 - عدم كفاية التنسيق بين الأجهزة اللبنانية.
ولا يمكن الحديث جدّياً عن ضوابط إضافية للعمليات قبل معالجة النقاط الثلاث. وهذا يقتضي مواجهة خيارات سياسية جريئة، أبرزها:
- إقفال الحدود المفتوحة بين لبنان ذهاباً وإياباً أمام المقاتلين والنازحين معاً، وتوسيع نطاق القرار 1701 ليشمل الحدود الشرقية والشمالية، ما يفرض التفاهم داخلياً لئلّا تتحوّل أزمة «داعش» صراعاً لبنانياً- لبنانياً.
- إعلان سياسة واضحة- لا خبث فيها- في ما يتعلق بالنازحين.
ويسأل المتابعون: هل في قدرة القوى المتصارعة في لبنان أن تتجاوز خلافاتها في أقرب ما يمكن، وأن تتفاهم على الملفات التي من شأنها تشكيل ضمانة في مواجهة الإرهاب وهي: النازحون، المخيمات الفلسطينية، التنسيق بين الأجهزة، القرار 1701 وإقفال الحدود في الاتجاهين؟
المؤكد أنّ التفاهم غير وارد حالياً. وأقرب فرصة للمناقشة ستكون على طاولة الحوار الموعودة في مطلع آب... إذا انعقدت، وإذا ما توصلت إلى إبرام تفاهمات إنقاذية.
وعلى الأرجح سيكون شعار المرحلة المرفوع، على الحامي: تكلّموا مع الرئيس بشّار الأسد. وليس غريباً ذلك ما دام الأوروبيون والأميركيون يتسابقون لمدّ الجسور معه، وبعضهم يطلب وساطة لبنان لتحقيق هذا الهدف!