صحيح أن إلغاء الاحتفال بيوم القدس العالمي جاء على خلفية أمنية، وتخوفا من أعمال إرهابية قد تستهدف التجمعات الاهلية بالخصوص بعد ما حصل في قرية القاع البقاعية والتفجيرات الآثمة التي استهدفت المدنيين وما قيل عن تسريبات توحي بأن لدى القوى التكفيرية مخططات تستهدف أكثر من منطقة لبنانية لن تكون الضاحية بمنأى عنها بالتأكيد.
يبقى أن الأهم من هذا الإلغاء هو الاشارة إلى ما قد طرأ على مسيرة حاملي لواء القدس والقيمين على إحياء هذا اليوم منذ أن أطلقه الامام الخميني عام 1979 من القرن الماضي، أي منذ ما يقارب 37 عاما، ولم يكن قد مضى على عودة الامام إلى طهران أكثر من ستة أشهر.
لا شك أن إطلاق يوم عالمي للقدس، كما إقفال السفارة الاسرائيلية في طهران واستبدالها بسفارة فلسطينية يعتبر من المحطات المضيئة في مسيرة الامام، وتسجل له هذه السابقة التاريخية في لحظة بدايات تخلي العرب والانظمة العربية عن القضية الفلسطينية ومنها القدس الشريف وما يمثل من بعد يمس المقدسات الاسلامية بكون المسجد الاقصى هو أولى القبلتين.
صحيح أن حمل الثورة الاسلامية لواء فلسطين والقدس كان ينسجم كليا مع الطموحات الايرانية ورؤية الامام الخميني توحيد العالم الاسلامي " تحت قيادته " وما يمكن أن يشكل كل هذا من عودة للحكومة الاسلامية العالمية التي بحسب الرؤية الشيعية تكون رافعة حقيقية لنصرة الشعوب المظلومة والمضطهدة على إمتداد العالم الاسلامي، فكان " القدس " يشكل الرمز الاول لمظلومية الشعوب وليس فقط لمظلومية الشعب الفلسطيني وهذا تماما ما جاء في نداء الامام الخميني يوم الاعلان عن يوم القدس : " يوم القدس يوما عالميا، ليس فقط يوما خاصا بالقدس، إنه يوم مواجهة الشعوب التي عانت ظلم اميركا وغيرها من القوى الكبرى "
فالتقت حينئذ شعارات المواجهة مع قوى الاستكبار والطغيان وعلى رأسهم أميركا الداعم الاول لشاه ايران عدو الثورة يومئذ، والداعمة الاساسية للكيان الاسرائيلي فشكل هذا الالتقاء لحظة تزاوج حقيقي بين المصلحة السياسية من جهة وبين البعد الشعارات المتفرع عن إسلامية الثورة من جهة أخرى.
إلا أن مرور الاعوام وتبدل الاحوال، لم يمسمح لهذا التوافق بين المصلحة والشعار أن يستمر، وهذا أمر طبيعي جدا في حياة الشعوب والامم، حتى وصلنا الى ما نحن عليه هذه الايام وما حملته من تحولات كبرى على مسار السياسة الايرانية كان أهمها هو توقيع الاتفاق النووي وما رافقه من تقارب ايراني أميركي توج منذ أيام بعقد صفقة بين شركة " بوينغ " الاميركية وشركة " إيران آير" الايرانية والتي بلغت قيمتها حوالي 25 مليار دولار والتي تعتبر الاولى منذ عام 1979 عام إعلان يوم القدس العالمي .
وتجدر الاشارة أيضا أن في بيان الاعلان نفسه والذي أطلقه الامام الخميني قد جاء فيه أيضا وبالحرف الواحد : " لو أن المسلمين في العالم خرجوا يوم القدس من بيوتهم وصرخوا (الموت لاميركا والموت لاسرائيل ) فإن نفس قولهم الموت لهذه القوى سوف يجلب الموت لها "
وهذا يعني بأن الجمهورية الاسلامية وبعد مرور كل تلك الاعوام وبسبب التبدلات الحاصلة فإنها اعتمدت كما كل دول العالم على تقديم المصلحة الايرانية على أحقية الشعارات والاهداف السامية، مما يعني أن الغاء يوم القدس العالمي فقد يصبح حاجة ضرورية ليس بسبب الاوضاع الامنية بل إنسجاما مع الإلغاء الحاصل للعداء مع أميركا، وكما أنه قد محيت شعارات " الموت لأميركا " من على جدران طهران وسقط قبله عندنا في لبنان شعار زحفا زحفا نحو القدس، فإن يوم القدس العالمي قد استنفد وانتهت صلاحية مفاعيله،
ولأن المصالح الإيرانية هذه الايام هي في مكان آخر والعداء المعلن صار في وجه العرب والانظمى العربية وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية فلا أستبعد أن يصار في القادم من الايام إلى استبدال " يوم القدس العالمي " بإعلان يخدم تلك المصالح المستجدة ويحمل هو الآخر بعدا دينيا يسخّر من أجلها ليكون هذه المرة " يوم مكة العالمي " .