لا تحتمل بلدة القاع البقاعية القريبة من الحدود اللبنانية المسيحية أن تتعرض لهجمات شنها 8 انتحاريين قلبوا سكينتها رأسا على عقب. ولا يحتمل لبنان أن يتعرض أمنه لهذا الاختراق المفاجئ على الرغم من أن أجهزة الأمن كانت تتوقع تلك الهجمات وتتحسب لها. وربما ما لفت نظر المراقبين هو أن البلدة المستهدفة ذات غالبية مسيحية مما سوّغ طرح ألف سؤال وسؤال عن مقاصد الانتحاريين الحقيقية وأهدافهم.
وفيما أجمعت التقييمات صباح الاثنين على أن الانتحاريين اكتشفوا صدفة وهم في الطريق إلى أهداف أخرى ففجروا أنفسهم في البلدة، لكن استهداف البلدة بموجة انتحاريين آخرين ليلا أعاد كل الحسابات.
وراحت مواقف السياسيين والأمنيين تصحح التقييم الصباحي واعتبار أن الهجوم يستهدف من البداية البلدة بالذات، حتى ولو أن فرضية الصدفة ثم الاستهداف الانتقامي الثاني مازالا قائمين.
ويعتبر المراقبون أن المهاجمين كانوا يستهدفون أي تجمعات للجيش اللبناني وقوى الأمن في البلدة. فالقاع التي يصل أقصى عدد سكانها صيفا إلى 4 آلاف نسمة أصبحت محاطة بتجمعات للاجئين السوريين يبلغ تعدادهم حوالي 25 ألفا ينتشرون في الأراضي الزراعية المحيطة بها، وتشهد المنطقة تواجدا عسكريا لبنانيا كثيفا، وقد تقصد الانتحاريون القيام بتفجيرات أولى لاستدراج دوريات الجيش ومهاجمة تلك الدوريات بتفجيرات لاحقة.
ويلفت البعض إلى أن استهداف بلدة مسيحية هدفه خلط الأوراق وإحداث فوضى وضرب الطوائف ببعضها البعض وهو ما يعزز حالة تخريب يريدها الإرهابيون للتخفيف من الضغوط التي يتعرضون لها في سوريا والعراق.
وقد تخوّفت الأوساط السياسية والأمنية من الانتشار العسكري المدني الاستعراضي الذي قام به أهالي البلدة غداة الاثنين الأسود قبل أن يتدخل الجيش اللبناني والفعاليات المحلية لمنع تلك المظاهر الميليشياوية. وقد عزز من تراجع الأهالي عن الدعوة إلى الأمن الذاتي التعزيزات التي استقدمها الجيش اللبناني إلى المنطقة.
ولا يستبعد خبراء في شؤون الإرهاب أن يكون هناك قرار من تنظيم داعش لنقل المعارك إلى ميادين أخرى بسبب تراجع قواهم في العراق وتقلّص تمددهم في سوريا ورغبتهم في توسيع نيران المواجهة بهدف تشتيت النيران التي تستهدفهم.
ويذكّر الخبراء أن نقل المعركة إلى لبنان لا يبتعد في منطقه عن التفجيرات التي ضربت جبلة وطرطوس على الساحل السوري، ناهيك عن أن تورط حزب الله المتفاقم في الصراع السوري يوفّر لداعش مسوّغا شرعيا وسياسيا قد يجد له بيئة حاضنة في لبنان.
لكن دبلوماسيين غربيين في بيروت يرون أن تفجيرات القاع منطقية في إطار البركان المتفجر في سوريا وتجاور لبنان لميادين الصراع. ولا تستغرب تلك الأوساط هذه الهجمات الانتحارية بقدر استغرابها من غيابها وتأخرها بالنظر إلى موقف حزب الله المعلن والمناصر لنظام دمشق.
وتعترف عواصم دولية بالقدرات التي أظهرتها أجهزة الأمن اللبنانية في رصد الأخطار وتفكيك الخلايا ومراقبة مخيمات اللجوء، كما لا تخفي التنسيق الكبير القائم بين أجهزة بيروت والأجهزة الاستخبارية الكبرى في العالم. وكان وزير الداخلية نهاد المشنوق قد أشار الاثنين إلى نجاح القوى الأمنية في القيام بسبع هجمات استباقية في الآونة الأخيرة أحبطت خططا للقيام بعمليات إرهابية داخل البلد.
وتوقف المراقبون عند الاستثمار السياسي الذي مارسته القوى السياسية لحدث بلدة القاع الدراماتيكي. فقد استنفرت القوى المسيحية جهودها للإضاءة على مسيحية البلدة وما يتعرض له المسيحيون من أخطار.
وتنافست تلك القوى على استعراض التصريحات التي تحاكي الجمهور المسيحي قبل عام على الانتخابات النيابية المحتملة. وقد لفت المراقبون إلى توجه مسؤولين مسيحيين إلى البلدة، وأثارت صور للنائب عن حزب القوات اللبنانية أنطوان زهرا بالسلاح وهو محاط بمسلحين، انتقاد وزير الشؤون الاجتماعية رشيد درباس المقرب من تيار المستقبل.
لكن الحدث وفّر مناسبة للسجال بين تيار يدعو إلى التمسك بالدولة وأدواتها ويحمل حزب الله مسؤولية الإرهاب الوارد من سوريا إلى داخل لبنان، وتيار حزب الله الذي وجد في الأمر مناسبة للتأكيد على أن خياره لقتال “التكفيريين والإرهابيين” في سوريا كان خيارا صائبا، وأنه لولا ذلك لكانت هجمات الإرهابيين قد اجتاحت البلد برمته.
وتخوّفت أوساط لبنانية من أن تكون هجمات القاع مقدمة لموجة من الهجمات الأخرى، فيما رأت مراجع أمنية في الحدث تحوّلا في سيناريوهات الإرهاب، لا سيما جهة عدد الانتحاريين الذي دُفعوا والممكن دفعهم بهذه الكثافة لاحقا، ما يستوجب تطويرا نوعيا سريعا لوسائل الردع الأمني والسياسي.
العرب