قلوب اللبنانيين تنبض مع القاع، تصلي لشهدائها والجرحى، وتواسي أم الشهيد والأب المفجوع. وتشد على أيدي اهلها الطيّبين الصامدين الذين كسروا بدماء أبنائهم عاصفة الجاهليين. وصمدوا. القاع الجريحة تتحضّر لإقامة مراسم العرس لتزفّ أبناءها الشهداء، ولإعلان قيامتها من جديد اقوى واصلب من كل العواصف، ولعل ما اصابها، اعاد تصويب البوصلة الداخلية نحو مكمن التهديد والخطر المحدق ليس بالقاع وحدها، بل بكل لبنان. القاع تنتظر، كما كل اللبنانيين، نتائج التحقيقات العسكرية التي بدأت حيال الهجوم الارهابي التي استهدفها. وبحسب تأكيدات مصادر عسكرية لـ»الجمهورية» فإنّ «هذه التحقيقات قد قطعت شوطاً مهماً، وهناك اعترافات وموقوفون وخيوط ومعطيات شديدة الاهمية في يد مخابرات الجيش، بالتوازي مع معلومات موثوقة على لسان مصادر أمنية بأنّ مخابرات الجيش قد تمكنت نهاية الاسبوع الماضي من إحباط مخطط ضخم، يتجلى بعمل إرهابي مزدوج، كان سيستهدف مرفقاً سياحياً مهماً في احدى ضواحي بيروت الشرقية، وقد تمّ إحباطه وتمّ توقيف شخصين على صِلة به».
لم تكن القاع بالأمس، مجرد بلدة لبنانية تتعرّض لهجوم ارهابي عابر، يضرب اهلها ويسقط منها شهداء وجرحى مثلها مثل اي بلدة او منطقة لبنانية استهدفها الارهاب، بل انّ رمزية تلك البلدة المسيحية بما تشكّله من نقطة التقاء وعنوان للعيش الواحد بين مختلف المكونات اللبنانية، وكذلك حجم العدوان الارهابي الذي تعرضت له، ونوعيته، بالكمّ الكبير من الانتحاريين والارهابيين الذي استهدفها بشكل غير مسبوق، صاغ رسالة الى كل لبنان وللمستويات السياسية والرسمية على اختلافها، بمضمون محدد مفاده: لا بدّ من قاعدة عمل جديدة وفاعلة في وجه الارهاب بكل عناوينه وما يتفرّع عنه، وبفاعلية شديدة داخل البيئة التي تشكل حضناً او ملاذاً له.
لقد تلقّت القاع عن لبنان الضربة الاولى والموجعة في أمنه واستقراره، وممّا لا شك فيه انّ ما حصل فتحَ على مرحلة جديدة، وصار من البديهي بل المُسلّم به، القول انّ ما بعد الهجوم الارهابي على القاع ليس كما قبله، ليس على مستوى هذه البلدة فحسب، بل على مستوى كل لبنان. حيث بدا بما لا يقبل أيّ شك انّ ما تعرضت له القاع تَمّت حياكته في «الغرَف السوداء» التي لطالما خطّطت وسَعت الى تخريب لبنان وتطويعه.
رسالة القاع، تؤكد للقاصي والداني انّ لبنان، وفي هذه المرحلة الجديدة التي تشهد مزيداً من الاشتعال في أزمات المنطقة، قد يكون في عين العاصفة اكثر من اي وقت مضى.
وتبعاً لذلك قد تكون تجليات الاستهداف متنوعة. وفق ما تجمع القراءات السياسية والامنية للهجوم الارهابي العنيف على القاع سواء من حيث الهجوم، او عدد الانتحاريين الذي لم يسبق ان استخدم في اية منطقة من سوريا الى العراق وليبيا والاردن وصولاً الى مصر واليمن.
والأساس في رسالة القاع انها ترسم خريطة طريق تحصين الداخل اللبناني وكيفية مواجهة الخطر الارهابي، كما يلي:
- اولاً، قاعدة العمل التي ينبغي ان تلتقي عليها كل المستويات الرسمية وكل القوى السياسية والعسكرية والامنية والشعبية، اجتثاث الارض، والحد من الخسائر مهما كان نوعها.
- ثانياً، ان تتحصّن الدولة، كل الدولة بكل مؤسساتها الرسمية وقواها السياسية، بالحد الادنى من القواسم المشتركة، لا سيما التشخيص الموحّد للمرض الذي يعانيه البلد وتحديد مكمن الخطر وتبيان مسبباته ونتائجة وكيفية مواجهته.
- ثالثاً، إحتضان الجيش فعلاً لا قولاً، من دون ان ننسى انه الهدف الاول للارهاب، وهذا يقتضي على الدولة توفير كل المقومات التي تمكّنه من إتمام مهمته في مكافحة الارهاب وحماية الحدود. وممّا لا شك فيه انّ كل الامور تبقى تحت السيطرة إن توافرت كل ظروف الحماية والدعم والتسليح للجيش.
- رابعاً، تجنّب مقاربة اي حدث ارهابي كالذي حصل في القاع، بخطاب سياسي ينمّ عن استمرار التناقض والاختلاف والانقسام الداخلي، فكل ذلك يشكّل فجوة كبيرة قد تسمح لهذا الارهاب بأن يتسلل الى الداخل بأمان اكثر ويصِل الى اهدافه بكل سهولة.
- خامساً، إنّ أيّ تحصين داخلي يَختلّ، واية محاولة للنأي بلبنان عن الخطر تبقى محكومة بالفشل إذا اقتصرت مواجهة الارهاب وخطره على العبارات الانشائية والتمنيات التي لا قيمة لها.
- سادساً، الخطر الاكبر على لبنان يتجلى في ظهور قوى محلية وكأنها مشاركة عن قصد او غير قصد، بتوطئة الارض للتصعيد الارهابي او مبررة له او حاضنة له. وبالتالي، بقدر ما تتكاتف القوى المحلية على اختلافها وتجتمع كلها تحت عنوان التحصين، بقدر ما تستطيع احتواء اي تصعيد، وتخفيف وطأة اي قطوع ارهابي وتجعله يمرّ بأقل الخسائر الممكنة.
- سابعاً، تطمين المسيحيين الى مصيرهم، وعلى وجه الخصوص تطمين مسيحيي المناطق الحدودية المحاذية لسوريا، فخوف هؤلاء يتزايد من ان يصيبهم ما أصاب المسيحيين في سوريا والعراق وسائر الدول المأزومة وتعاني من الارهاب الداعشي وأخواته. وبالتالي، باتوا في أمسّ الحاجة الى مظلّة أمان تحميهم، وعينهم على الدولة.
- ثامناً، إدخال الضوابط التي باتت ضرورية على مسألة النازحين السوريين، خصوصاً انّ هذا النزوح تَوسّع في لبنان بطريقة عشوائية، بل بطريقة سرطانية جعلته كالمرض الذي وصل الى مرحلة الانتشار بالجسم. وبالتالي، فإنّ العلاج يكون بجرعات تتناول كل الجسد، خصوصاً انّ التعامل معه بشكل مجتزأ او معالجته بالمسكنات سيؤدي حتماً الى موت المريض.
القاع... حذر... ومعزّون
وعاشت بلدة القاع امس، حالاً من الحذر والخوف من عمليات إنتحارية جديدة وخَلت شوارعها من المارّة إلّا في الحالات الضرورية، وغَصّت بالمعزّين من سياسيين ومواطنين، الذين قصَدوا صالون كنيسة البلدة لتقديم العزاء بالشهداء الخمسة الذين كان من المفترض تشييعهم أمس، غير أنّ الأوضاع الأمنية المستجدة أدّت إلى تأجيل التشييع إلى اليوم.
وتابعت الأجهزة الأمنية تحقيقاتها بالتوازي مع إجراءات ينفذها الجيش في البلدة، ومداهمات نفّذها فوج المجوقل في مشاريع القاع وداخل البلدة، بحثاً عن مطلوبين وانتحاريين دخلوا مع الثمانية الذين فجّروا أنفسهم.
وترافقت الإجراءات مع قصفٍ مدفعي وبراجمات الصواريخ للمسلّحين في جرود رأس بعلبك وتلال القاع، فيما سجّل انتشارٍ كثيف لعناصر من «حزب الله» في عدد من القرى والمدن البقاعية الحدودية ولا سيما المحيطة بالقاع.
مواكبة سياسية... وأمنية
وفرض الهجوم الارهابي مواكبة سياسية وأمنية حثيثة، حيث اتخذت إجراءات أمنية لافتة للانتباه في العديد من المناطق بدءاً من الضاحية الجنوبية وبيروت وصولاً الى البقاع والجنوب، حيث أفيد عن انتشار واسع للجيش اللبناني في مناطق سردة الوزاني، عين عرب، وطى الخيام، فأقام حواجز ثابتة ودوريات، ودقّق في الاوراق الثبوتية للنازحين.
وخصّص مجلس الوزراء جلسته امس، لبحث الخطوات الواجب اتخاذها. وعبّر المجلس عن اقصى حدود التضامن. فالمرحلة الجديدة من المواجهة مع الارهاب تستدعي تأجيل كل الملفات واعلان الاستنفار العام، حكومة ومؤسسات، للتصدي ودرء الاخطار.
وتحوّلت جلسة مجلس الوزراء من مالية الى امنية بامتياز، بدأت بدقيقة صمت حداداً على ارواح الشهداء، ثم أبدى كل وزير وجهة نظر فريقه السياسي وعرضَ المخاوف وقارب اساليب المواجهة. فكان التركيز على ضرورة ترك التدابير الامنية للاجهزة الشرعية وضبط وضع النزوح السوري الذي تشكّل مخاطره عاملاً أساسياً في هذه المواجهة.
وأبدى رئيس الحكومة تمام سلام مخاوفه من ان يكون لبنان دخل مرحلة جديدة من الاساليب الارهابية التي تستدعي رفع الجهوزية وتحصين الوحدة الداخلية والالتفاف حول الجيش والاجهزة الامنية.
وعلمت «الجمهورية» انّ وزير الشؤون الاجتماعية رشيد درباس استنكر عملية زَجّ المخيمات السورية بما حصل، لكنه في المقابل دعا الى رفع الصوت لدى المجتمع الدولي من أجل تأمين مناطق آمنة لعودة النازحين. وسأل عن الصورة التي تظهر نائب «القوات اللبنانية» انطوان زهرا وهو يحمل السلاح بين أهالي القاع، ونوّه في المقابل بمواقف العميد شامل روكز.
وتحدث وزيرا «حزب الله» محمد فنيش وحسين الحاج حسن عن دور المقاومة في مواجهة المجموعات الارهابية على الحدود. وأكدا انّ خيار المقاومة بتنفيذ العمليات العسكرية الواسعة على الحدود كان خياراً صائباً ومخاوفنا كانت في محلها، ولو لم تقم بهذا الأمر لكان الإرهاب دخل وتغلغل الى لبنان منذ أربع سنوات».
بدوره، ناشد الوزير سجعان قزي رئيس مجلس النواب نبيه بري دعوة هيئة الحوار الوطني الى الانعقاد لاتخاذ الموقف المناسب.
وجرى نقاش مطوّل حول ملف النازحين السوريين، ففيما دعا بعض الوزراء الى ضبط حركة النازحين واتخاذ اجراءات عاجلة لتأمين عودتهم، دعا وزراء آخرون الى التنبّه لردّات فِعل الأهالي على النازحين.
واكدت مصادر وزارية لـ«الجمهورية» انّ الوزراء أجمعوا على ضرورة إعطاء الشرعية في الدفاع عن أمن لبنان للأجهزة الامنية ورفض الامن الذاتي. واشارت الى انّ تناغماً بين الوزراء، خصوصاً المتخاصمين منهم، لوحِظ عند مداخلة الوزير جبران باسيل حول أحداث القاع وإشادته بنواب المنطقة الذين تصرّفوا على درجة عالية من المسؤولية والتضامن. فأثنى الوزير غازي زعيتر على كلامه.
إجتماع أمني
وعقد اجتماع أمني في مكتب قائد الجيش العماد جان قهوجي ضَمّه ووزير الدفاع سمير مقبل ووزير الداخلية نهاد المشنوق ومدير عام الامن العام اللواء عباس ابراهيم.
وترأس سلام اجتماعاً امنياً صدر عنه بيان أكّد «أنّ الاعتداء الذي استهدف بلدة القاع قد يكون مؤشراً إلى مرحلة جديدة أكثر شراسة في المواجهة مع الإرهاب الظلامي».
وقالت مصادر المجتمعين لـ«الجمهورية» إنهم تبلّغوا من الاجهزة الامنية انّ التحقيق تَوصّل الى تحديد هويات 7 انتحاريين جميعهم من السوريين، وما زال التدقيق مستمراً في هوية الثامن، مع ترجيح إمكان وصولهم الى القاع عبر جرود عرسال.
القاع... ومصير المسيحيين
وطرحت قضية التفجيرات في القاع على بساط البحث مسألة الوجود المسيحي في القرى البقاعيّة الحدوديّة والأطراف، خصوصاً انّ هذا الملف بات بحاجة الى عناية خاصة مع دخول القرى المسيحية دائرة الخطر.
حمل أبناء القاع السلاح، رجالاً ونساء، واستنفر أهالي رأس بعلبك وحملوا السلاح تحسّباً لأي طارئ، خصوصاً انّ «داعش» تحتلّ قسماً لا بأس به من جرود البلدة. وبرز التنسيق بين الكنائس المسيحية في البقاع، وترددت أصداء ما حصل في منطقة دير الأحمر وزحلة، حيث أبدى رجالها كل الإستعداد لنجدة البلدات المسيحية الحدودية اذا دعت الحاجة.
ونشطت الأحزاب المسيحية قيادة وافراداً على الأرض، واستمرت الإتصالات السياسية مع المرجعيات الأمنية لفرض الأمن وضبط الوضع، مع تأكيدهم على دعم الجيش للقيام في جميع مهماته.
حنّا لـ«الجمهورية»
وفي سياق القراءات للهجوم الارهابي على القاع، قال الخبير الاستراتيجي العميد المتقاعد الياس حنّا لـ«الجمهورية»: «يجب أن نفهم انّ المخاطر مستمرة، وانّ الارهابيين استطاعوا اليوم خَرق الوضع الامني. وقد شاهدنا ما حصل، لكن لم نشاهد العمليات التي أحبطت».
واضاف: لا نزال في المرحلة نفسها والمخاطر نفسها لكن بتنا واعين أكثر. فبدل ان يحصل الانفجار في الضاحية يحصل في راس بيروت، وبدل ان يحدث في راس بيروت يحدث في ضهر البيدر. والآن في القاع، وليس ذلك معناه انّ ما يحدث مبرّر وانّ من استشهد في ضهر البيدر يختلف عمّن استشهد في القاع، لكن ما اقوله هو أننا اليوم في مرحلة جديدة.
واكد حنّا أن لا شيء اسمه تدابير ناجعة ولا شيء اسمه أمن مطلق، ونَوّه بقرار محافظ بعلبك الهرمل بشير خضر بحظر تجول النازحين السوريين في القاع ورأس بعلبك ووصفه بالقرار المميز جداً.
سكرية
وقال عضو كتلة «الوفاء للمقاومة « النائب الوليد سكرية لـ«الجمهورية»: «القاع هي المستهدفة، وليس أي شيء آخر. ما حدث يجب ان يقنع اللبنانيين بأنّ هذا الإرهاب يقاتل كل من لا ينتمي الى عقيدته وفكره».
واكد سكرية انّ على الدولة اللبنانية «التي اتّبَعت سياسة النأي بالنفس سابقاً وتركت الامور سائبة في لبنان أكان بحركة العبور الى سوريا او دخول المسلحين الى لبنان او بحركة السلاح ذهاباً واياباً او بعدم ضبط النازحين، أن تعيد النظر في سياستها وتبني استراتيجية الدولة اللبنانية لمواجهة هذه الحال، أكان بالمسلحين الموجودين في جرود عرسال او النازحين المنتشرين عشوائياً في لبنان.
واعتبر تاريخ 28 حزيران كما قبله، فخطر الارهاب قائم دائماً، وعلى من يدفنون رؤوسهم في الرمال ويحيدون أنفسهم ويعتبرون انّ المعركة بين «حزب الله» والارهاب، أن يقتنعوا انّ هذا الارهاب سيستهدف أيّاً كان خصوصاً اذا تمّ إخراجه من العراق وسوريا».
«14 آذار»
وقالت مصادر بارزة في قوى 14 آذار لـ«الجمهورية»: «المشكلة في لبنان باتت واضحة، والحلّ عبر قرار مجلس الامن الدولي الرقم 1559 الذي ينزع سلاح الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية على الاراضي اللبنانية، وبالقرار 1701 الذي يدعو الى ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا وضبطها من قبل الجيش اللبناني والقوى الشرعية حصراً.
ورأت انّ حلّ مشكلة الارهاب في لبنان او مشكلة الارهاب المتسلّل من سوريا الى لبنان يمرّ حُكماً بضبط الحدود وإقفالها في وجه الارهاب والارهابيين، وفي وجه أيّ حركة سلاح غير شرعي بالاتجاهين».
وشددت المصادر على «ان لا شيء إسمه مسيحي ومسلم في مواجهة الارهاب، هو يضرب جميع اللبنانيين من دون استثناء»، واعتبرت «أنّ التدابير الامنية المتخذة اليوم كفيلة بأن تقف في وجه الارهاب من الناحية التقنية.
لكن اذا أردنا معالجة الموضوع بنحو اساسي وجذري فإنّ الحل الوحيد هو ترسيم الحدود وضبطها وانتشار أمني وعسكري شرعي عليها بنحو كامل بمساندة من القوات الدولية الموجودة في الجنوب وفقاً للقرار 1701».