لم يسبق للحكومة أو للقيادات العسكرية والامنية ان وضعت الرأي العام اللبناني في أجواء مشدودة تقتضي استنفاراً رسمياً وسياسياً وشعبيا في موازاة الاستنفار الامني الاستثنائي الحاصل منذ هجمات الارهابيين الانتحاريين على القاع، كما فعلت غداة هذه الهجمات أمس. وبدا واضحاً ان المسؤولية الرسمية سياسياً وأمنياً قد وضعت في ظل المعطيات والمعلومات المتجمعة لدى الاجهزة العسكرية والامنية أمام واقع شديد الدقة بل الخطورة يتعين معه بدء مرحلة تكيف مع قواعد جديدة من المواجهة القاسية مع انماط جديدة ومتغيرة تعتمدها التنظيمات والخلايا الارهابية في استهدافها للبنان، على ما كشفته المواجهات الاخيرة مع الانتحاريين الذين فجروا أنفسهم في استهداف القاع. هذه المعطيات والمعلومات جالت على نحو طارئ أمس بين ثلاثة اجتماعات اكتسبت طابعاً يكاد يقرب من حال طوارئ غير معلنة الاول في لقاء ضم وزير الداخلية نهاد المشنوق وقادة الاجهزة الامنية في مكتب قائد الجيش العماد جان قهوجي، والثاني في جلسة مجلس الوزراء التي تحولت جلسة امنية خالصة، والثالث في الاجتماع الامني الموسع الذي رأسه رئيس الوزراء تمام سلام مساء في السرايا الحكومية.
وعلمت "النهار" ان معلومات جرى تداولها في الاجتماعات الثلاثة ولا سيما منها الاجتماع الامني الموسع برئاسة سلام استندت الى معطيات الجيش الذي استبعد ان يكون الانتحاريون الثمانية الذين نفذوا تفجيرات القاع قد انطلقوا من مخيمات اللاجئين في مشاريع القاع والارجح انهم تسللوا الى القاع من جرود عرسال. وتبين ان الجيش عرف هويات سبعة منهم وهم سوريون وبينهم امرأة. كما استبعد الجيش ان تكون الهجمات الارهابية ردة فعل على اقدام بلدية القاع مع قوى الامن الداخلي على هدم منشآت اسمنتية اقامها اللاجئون داخل المخيمات واعتبرت المصادر العسكرية المعنية ان هذا الاحتمال ضئيل لان ردة الفعل لا تكون بهذا العدد من الانتحاريين الذين استهدفوا بلدة القاع. كما علمت "النهار" من مصادر أمنية أن الانتحاريين الذين دخلوا بلدة القاع هم مجندون جدد لم يكونوا سابقاً ضمن رصد الجهات المعنية وهم في إطار مجموعات يصل عدد كل منها الى 17 عضواً.
واسترعى الانتباه في البيان الصادر عن الاجتماع الامني في السرايا اشارته الى ان "المسؤولية الوطنية تقتضي تنبيه اللبنانيين الى المخاطر المحتملة وعدم استبعاد ان تكون هذه الجريمة الارهابية (في القاع) فاتحة لموجة من العمليات الارهابية في ظل معلومات تتولى الجهات الامنية متابعتها واتخاذ ما يلزم في شأنها ". واذ استبعد الوزير المشنوق أي علاقة لمخيمات اللاجئين بالهجمات على القاع، لم يستبعد ان يكون هناك مخطط لزعزعة الامن في لبنان وضرب الاستقرار. وقال العماد قهوجي لدى وصوله الى السرايا :"الاكيد ان تفجيرات القاع هي بداية مرحلة جديدة في عمل الارهابيين ولكن ما ليس أكيداً أن يكون هناك مخطط جديد". ولفت الى وجود امرأة بين الانتحاريين.
مجلس الوزراء
وفي جلسة مجلس الوزراء تحدث الرئيس سلام عن مواجهة لبنان شكلاً جديداً من أشكال الصراع مع الارهاب، موضحاً ان الاعتداء على القاع لم يكن مفاجئاً بذاته وان الاجهزة الامنية كانت حذرت من عمل يخطط له الارهابيون "لكن المفاجئ للجميع كان الاسلوب الذي اتبع في تنفيذه وعدد الانتحاريين الذين شاركوا فيه". وتخوّف من ان يكون ما جرى بداية لموجة من العمليات الارهابية في مناطق مختلفة، داعياً الى مواجهة هذا الواقع "بموقف وطني موحد ومتكامل فليس المطلوب استنفار طائفي أو مذهبي أو فئوي والا فاننا نكون وقعنا في الفخ الذي نصبه لنا الارهابيون".
وأبلغت مصادر وزارية "النهار" ان الموقف الذي أدلى به الرئيس سلام في مستهل الجلسة تحول الى موقف للحكومة صدر في البيان بعد الجلسة بما يعكس تبني كل مكونات الحكومة هذا البيان. وأفادت ان النقاط الاساسية للوزراء الذين توالوا على الكلام هي: تهيّب الجميع للوضع العام، وجود اقتناع بإن لبنان دخل مرحلة أمنية جديدة مختلفة عما سبقها، إجماع على مواجهة الارهاب وعلى ضرورة ضبط الحدود وتجمّعات اللاجئين مع محاذرة إعتبار اللاجئين كبش محرقة ووصمهم بالارهاب، التشديد على تعزيز الوضع الحكومي لمواجهة التطورات لإن أي إرتجاج أو تغيير في هذا الوضع يدخل البلاد في الفراغ المدمّر وليس الفراغ الدستوري وحده، ومقاربة احداث القاع مقاربة وطنية وليس مقاربة طائفية.وتقرر ان تبقى جلسات مجلس الوزراء مفتوحة مع الاشارة الى انتقادات سجلها عدد من الوزراء لغياب وزيريّ الدفاع والداخلية عن الجلسة وهما المعنيان أكثر من سواهما بها. ووصفت خلاصة ما انتهت اليه الجلسة بإنها تجاوزت كلمات الاستنكار الى الاستنفار والتأهب والمواجهة.
وفي سياق المداخلات، تمنى وزير العمل سجعان قزي أن يدعو الرئيس نبيه بري إستثنائياً الى إنعقاد إجتماع الحوار النيابي لقادة الصف الاول لكي يتخذوا موقفا موحدا في مواجهة الارهاب ومناشدة السعودية احياء الهبة المخصصة للجيش اللبناني الذي يحتاج إليها في هذه المرحلة الخطيرة,وتقليص عدد اللاجئين.
بري
وكشف الرئيس بري أمام زواره أمس ان معلومات وصلته في الايام الاخيرة تفيد ان مجموعات ارهابية تعد لعمليات وهجمات تفجير تستهدف شخصيات سياسية والجيش وقوة "اليونيفيل" في الجنوب وبعض المناطق وأنه ابلغ قيادة "اليونيفيل" هذه المعلومات لاتخاذ الاجراءات المطلوبة. وقال: "كما تمكن الجيش من ضبط عناصر ارهابية وتوقيف الذين يتبعون هذه المجموعات ثمة متابعة دقيقة لهذه المعلومات".
ورأى ان الهجمات الارهابية في القاع "تشكل منحى جديداً في استهداف اللبنانيين ولم يتمكن الارهابيون من تحقيق أي شيء على حدود الوطن السيادية وهم يحاولون اليوم ان يدخلوا الى حدود المجتمع اللبناني كلا الذي يجب ان يواجه الخطر الارهابي بالوحدة". واذ لاحظ ان "هناك من يعلن طروحات متطرفة وعصبية وفيديرالية وغيرها"، خلص الى أن القاع ليست المستهدفة وحدها بل كل لبنان، مشدداً على "ان المطلوب وحدة اللبنانيين في وجه هذا النوع من السموم التي تقتلنا جميعاً".
جعجع
في غضون ذلك، استمر رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع في رسم علامات شكوك حول الاهداف الحقيقية والنهائية للعمليات الارهابية في القاع اذ صرّح أمس لـ"النهار" بأن لا تفسير واضحاً بعد لهذا الاستهداف. لكنه أشاد بمجموعة عوامل أبرزها "اثبات الجيش جدارته واثبات قائده العماد قهوجي انه لا يهاب المرحلة التي يواجهها البلد، وبروز واقع الاحاطة الكبيرة للمسيحيين بالقاع كواقع داعم للجيش أو خط دفاع ثان حيث تدعو الحاجة". واعتبر ان تفجيرات القاع "لا تخيف وان كانت مؤلمة لانها لا توصل الى أي مكان".
اما في الواقع السياسي، فان جعجع استبعد ان تشكل التطورات الامنية على خطورتها حافزاً للدفع في اتجاه انتخاب رئيس للجمهورية، مشيراً في هذا السياق الى ان نتائج لقاء الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند ووزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف "لم يترك مجالا للتفاؤل" في ضوء الذرائع الايرانية التي تخفي رغبة ايران في مقايضة الرئاسة اللبنانية ببقاء الرئيس السوري بشار الاسد. واعتبر في هذا السياق ان العماد ميشال عون "قد يكون آخر من تريده ايران وحزب الله رئيسا للجمهورية".
القاع
اما على الصعيد الامني، فبدت القاع أمس تحت وطأة الاستنفار الواسع غداة موجتي التفجيرات الانتحارية وسط تكثيف الاجراءات العسكرية والامنية وعمليات التمشيط الواسعة التي قام بها الجيش الذي طلب انهاء الانتشار المسلح للاهالي بعدما بلغ ذروته مع توافد الكثير من ابناء القاع المقيمين في بيروت للدفاع عن بلدتهم، كما برزت ظاهرة خروج نساء مسلحات للمساهمة في التصدي للارهابيين. ومن المقرر ان تقيم البلدة اليوم جنازة جماعية لشهدائها الخمسة الذين سقطوا في عمليات التفجير الانتحارية الاثنين.