قبل مدة وجيزة، كنت أتحدث مع كادر من أحد الأحزاب . كان يعاتبني إلى درجة اللوم على مقالات لي أكتبها وأنشرها هذه الأيام، وهي كتابات تحاكي الوضع السياسي السيء الذي بتنا نعيشه داخل طائفتنا الشيعية اللبنانية ذات التاريخ الأكثر تضحية ومجدا بين الطوائف .
من الكلمات التي استعملها هذا الكادر في وصف كتاباتي، هي كلمة "خليط ممسوس ملطوش" ! ويقصد بتعبيره هذا، أن الفكر الذي أنطلق منه هو عبارة عن مجموعة من الأفكار المأخوذة من هنا وهناك، وأن هذا الطرح لا يتطابق "بالكامل" مع أي طرح سياسي موجود من الأطروحات السياسية الحالية للأحزاب وأخواتها !
لا شك أنني تأذيت من هذا الوصف الذي تفوح منه روائح الإستعلاء والتكبر المنتنة -إن لم أقل أكثر من هذا- ولكن جوابي كان هو التالي:
عندما تأخذ أي جهة جزءا من الحقيقة، وتأخذ جهة أخرى جزءا آخر منها، ثم تقوم باقي الجهات بالعمل على هذا النحو، ثم تقنع كل جهة من هذه الجهات نفسها بأن الجزء الذي أخذته من الحق هو الحق كله وأن الحقيقة باتت كاملة بحوزتها، عندها سترى كل جهة غيرها من الجهات أنها محض باطل وأنها لا تمتلك من الحقيقة شيئا ! لكن المشكلة ليست هنا، المشكلة الكبرى لهؤلاء "الكوادر الأقفال" هي عند مواجهتهم لمن جمع أجزاء الحقيقة كلها من نبعها الصافي ومصدرها الصحيح، وبالدليل العقلي والنقلي، عندها سيرى هؤلاء الكوادر أن "الحقيقة" الموجودة في مكان آخر عبارة عن فكر تم جمعه من جهات سياسية مختلفة، وأن أصحاب هذه الحقيقة "الصحيحة" قد أخذوا بجزء من فكر كل جهة وجعلوا منها طرحا آخر مناوئ لتلك الجهات كلها، وبالتالي فإنهم عندها يرون أن مالك الحقيقة هذا هو صاحب فكر "خليط" قد جمعه من هذه الجهة وتلك الفئة !.
ولا يخطر على بال هؤلاء أن ما يصفونه "بالفكر الخليط" هو الحقيقة الكاملة، والتي عندما تشكلت لم تلتفت إليهم -أصلا- وإلى فكرهم الذي هو عبارة عن فكر "خلط" بين شيء من الحق وشيء من الباطل فكان "شبهة" وليس حقيقة !.
وغفل هؤلاء السذج الوصوليون عن أن تصورهم هذا ناشئ عن اعتزازهم بأنفسهم وإعجابهم بها وتصورهم بأنهم قد ملكوا كامل الحقيقة، وغفلوا عن أن "الحقيقة الكاملة" موجودة في مكان آخر، وأنهم هم وأشباههم من الجهات السياسية قد أخطؤا عندما أخذت كل فئة منهم جزءا من الحقيقة وأغفلوا العمل بباقي الأجزاء . في الوقت الذي جمع غيرهم -ممن يصف هؤلاء فكرهم بانه "خليط"- كل أجزاء الحقيقة التي جزأتها الفئات المختلفة وأخذت كل واحدة منها بجزء يتناسب وأهوائها السياسية والزعاماتية، وأوهمت نفسها والناس بأن ما حازته هو الحق كله، وأن ما عند غيرها -ممن جمع أجزاء الحقيقة كاملة من مصدرها- إنما هو "خليط" تم جمعه من سياسات جهات وفئات مختلفة بل ومتصارعة !
وقد تعمد هؤلاء "الكوادر الأقفال" أن يتجاهلوا أنهم هم من جعلوا القرآن عِضِيناً وأجزاء، فأخذ كل حزب منهم ببعضه مما يتناسب والأهواء السياسية لكل منهم - وصاروا يدينون الله والناس بها، ولاءا أو عداءا ! والأنكى من كل ذلك، هو أنك عندما تتحدث مع هؤلاء وتشرح لهم حقيقة الأمر وأنهم قد أخذوا ببعض الحقيقة كما فعل غيرهم من أقرانهم من الجهات السياسية الأخرى، تراهم يلوون رؤوسهم وهم يستكبرون .
عند ذلك ترى نفسك وكأنك أمام "أقفال قد ضاعت مفاتيحها" ولم تعد تعقل أكثر مما يلقيه في عقولهم مالكوا هذه المفاتيح من "أولياء نعمتهم" الذين يسمونهم "أولياء الأمر" ! قال تعالى في كتابه الحكيم :{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [سورة الكهف-104/103]ج