ينقل ناشطو دير الزور، تلك المحافظة السورية الواقعة شرق البلاد على نهر الفرات، والتي يطلق عليها بالعامية السورية الدير، أخباراً يومية عن حالات إعدام بصور وأشكال وحشية، من ذبح ونحر وحرق وصعق كهربائي وطعن وإغراق ورمي من المرتفعات وتفجير، إلى إطلاق النار والصلب، على يد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). لكن هذه الوقائع لا تمثل إلا نصف رواية معاناة أهل دير الزور. فالنصف الآخر تكمله قوات النظام السوري والطائرات الروسية وطائرات التحالف الدولي، التي ترمي على المدنيين شتى أنواع المتفجرات الثقيلة وخاصة المحرمة دولياً، من قنابل فسفورية وعنقودية لتقتل عشرات المدنيين بينهم أطفال ونساء، تحت شعار مكافحة الإرهاب.


ووقعت آخر المجازر التي يرتكبها النظام، في بلدة القورية بريف دير الزور الشرقي، والتي راح ضحيتها نحو 70 قتيلاً بينهم عائلات بأكملها ومعظمهم أطفال ونساء، إضافة إلى عشرات الجرحى. هكذا يتكرر ارتكاب الروس والقوات النظامية لمجازر بحق المدنيين، ولا سيما أن ناشطين يؤكدون أنه يكاد لا يكون بين القتلى مقاتلون من "داعش"، في حين أن القصف يأتي باسم محاربته.

يقول عضو "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" محمد الخليف، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "مدينة القورية أو كما ينطق اسمها أهل الدير- الگريا- بلدة صغيرة تقع على ضفاف الفرات"، ويضيف أن قسماً من السوريين "يسمع لأول مرة باسم هذه البلدة، أولاً كونها تتبع لمحافظة دير الزور التي لا يهمنا ما يحدث فيها أو تعودنا على تجاهل وتناسي ما يجري فيها ويختلف هذا السبب من شخص لآخر". ويعتقد أن هذا التجاهل يعود ربما "لنظرة التعالي تجاه بعضنا جعلتنا دائماً ننظر إلى سكان هذه المحافظة بنظرة فوقية وهذا ما تركهُ حزب البعث (الحاكم) في أنفسنا، وينظر بعضنا الآخر إلى من بقي في ديرالزور على أنهم دواعش أو هم حاضنة داعش".

ويتابع الخليف قائلاً: "لو عدنا بالذاكرة إلى ما بعد شرارة أطفال درعا، فمجرد ذكر القورية نتذكر كتائب القعقاع التي تشكلت في البدايات الأولى بعد ظهور كتائب الفاروق في حمص، وقدموا البطولات والتضحيات ليس في دير الزور فقط بل وصلوا إلى القصير وضحوا بدمائهم دفاعاً عن سكانها كونهم سوريين فقط ليس إلا"، مشيراً إلى أن "هذه البلدة الصغيرة قدمت حتى الآن أكثر من 600 شهيد من أجل الحرية، وأن العشرات من شباب هذه البلدة أعدمهم داعش وكان آخرهم سيدة سورية، الأسبوع الماضي، ونحنُ ما زلنا ننظر إليهم كدواعش".

ويرى الخليف أن "القصف الذي يقوم به الروس والقوات النظامية هو عبارة عن عمل إجرامي وترهيب للمدنيين، إذ لا يطاول هذا القصف مقاتلي التنظيم، وخير دليل المجزرة التي ارتكبها الروس في القورية، وهي خالية تماماً من أي تواجد للتنظيم".

لكنْ للخليف تحليل عميق يساهم في تفسير سبب التحاق الناس أكثر فأكثر بتنظيم "داعش". فهو يعترف من جهة، بأنه كلما "زادت المجازر" كلما ازدادت "حالة غضب من الأهالي ضد داعش" فضلاً عن "استهجان الناس لعدم استهداف الطيران بالمضادات أو الصواريخ التي يمتلكها التنظيم". لكن الخليف يشير من جهة أخرى إلى أنه "بذات الوقت تجد أن هناك شباباً يلتحقون بداعش بهدف الانتقام والحقد على النظام" بعد المجازر المرتكبة.


ويستبعد الخليف أن يكون لهذه المجازر أي أثر إيجابي للنظام كدفع الأهالي للتعامل معه أو إجراء مصالحات، ذلك أن دير الزور شهدت العديد من المجازر ويعيش أهلها في ظل أزمة إنسانية كبيرة، إضافة إلى تعديات "داعش" التي لا تحصى. ويقول إن "الطيران شن خلال الأيام الماضية الكثير من الغارات، كقصف سوق الميادين، لكن القصف لم يتسبب في مجزرة كبيرة لأنه تزامن مع موعد الإفطار"، معتبراً أن "القصف له هدف واحد يندرج ضمن المسرحية الهزلية التي تسمى محاربة الإرهاب المتمثل في داعش، حيث يعمل الروس على تقديم عملياتهم للمجتمع الدولي على أنها تستهدف مقرات داعش وهذا الكلام بالطبع عارٍ من الصحة، إلا أنها تستغل الصورة المشوهة لدير الزور على أن كل من فيها هم دواعش أو حاضنة لهم".

في غضون ذلك، تناقل ناشطون معارضون على مواقع التواصل الإجتماعي أمس الأحد، خبر إعدام "داعش" لخمسة إعلاميين في محافظة دير الزور، بعدما اتهمهم التنظيم بـ "الردة" بسبب بثهم أخباراً وصوراً عن التنظيم. والإعلاميون هم مدير "مكتب شركة تفاعل التنموية للإعلام" في دير الزور، سامر عبود، والصحافي محمد مروان العيسى، "المتهم" بالتواصل مع قناة "الجزيرة" القطرية، والإعلامي سامي رباح، بسبب "قيامه بدراسات تفصيلية عن أحوال المدنيين في دير الزور وإرسالها لخارج سورية"، ومسؤول إذاعة "الآن" محمود شعبان الحاج خضر، والناشط مصطفى "أبو صطيف"، لتواصله مع منظمة "هيومن رايتس".

ويعود تاريخ تهميش الدير إلى عشرات السنوات من حكم البعث، رغم أنها من أغنى المحافظات بالثروات الباطنية والزراعية، إلا أنه بالمقابل كان هناك العديد من المناطق لم يصلها التيار الكهربائي أو شبكات الصرف الصحي، في حين كان الحاكم الفعلي في الدير هو فرع الأمن العسكري، الذي كان يتدخل في أبسط القضايا الاجتماعية كالخلاف بين الزوج وزوجته، إضافة إلى مسائل الرعي والري والتهريب عبر الحدود السورية العراقية، التي كان ينقل عبرها الأسلحة والدخان والمواشي.

ويذكر ناشطون معارضون من الدير أنه في عام 2011، كان رئيس فرع الأمن العسكري جامع جامع، السيئ السيط والذي قتل فيما بعد، يتدخل بلباس شباب الدير ويقص أحذيتهم الطويلة وسراويلهم الطويلة وأنه كانت دورياته تقص الشعر الطويل للشباب.

ويقول ضابط معارض من أبناء دير الزور، والذي كان أحد القادة العسكريين في الفصائل المعارضة، التي قاتلت في الدير إلى أن سيطر "داعش" عليها، في حديث مع "العربي الجديد"، إنه "ومع تحول الحراك السوري إلى المواجهة المسلحة مع النظام في عام 2012، انشق عن القوات النظامية مئات الضباط والجنود من أبناء الدير، لينخرطوا في المجموعات المسلحة المناهضة للنظام، ليعانوا بداية من نظرة المجتمع السلبية للمؤسسة العسكرية التابعة للنظام، إذ تعتبر أساس الفساد ومثال للشخصيات الانتهازية والوصولية والعميلة للدولة الأمنية المهيمنة على مؤسسات الدولة. وهذا الأمر حال دون أخذ معظمهم دوراً قيادياً في تلك المجموعات المعارضة. ومع تحسن مواقعهم بدأ "داعش" يتغلغل في الدير اعتباراً من منتصف عام 2014، مستغلاً ضعف الدعم الإقليمي وعدم التنسيق بين الجهات الداعمة التي كان همها حجز فصيل عسكري لحسابها على الأراضي السورية لتكون لاعباً في الأزمة، إضافة إلى اختراق الفصائل والهيئات العسكرية المتواجدة في تركيا أمنياً، فكان "داعش" يعلم بتحركات الفصائل ومواعيد وطرق قوافل الدعم قبل انطلاقها.

ويفيد الضابط، الذي طلب عدم ذكر اسمه، أن "تجربة العسكريين المعارضين من أبناء الدير هي تجربة مريرة، فبعد إفشال الحراك العسكري ضد النظام في الدير جراء اختلاف مصالح الداعمين، الذي توجه معظمهم لدعم الفصائل الإسلامية، والتي انقلبت معظمها إلى فصائل متشددة لها مشروعها الجهادي، وعقب خروج الغالبية الساحقة من المقاتلين العسكريين والمدنيين من الدير إلى تركيا، لم يهتم لأمرهم أي هيئة معارضة سياسية كانت أو عسكرية في تركيا. فتشرد ألاف الشباب من الدير، لجأ بعضهم إلى المعسكرات، وبعضهم الآخر تشرّد في الشوارع والحدائق، ومنهم من لجأ إلى أقارب أو طلب مساعدة أهله، وهم انتظروا أن تتواصل معهم أية جهة وذلك لأكثر من 6 أشهر، الأمر الذي جعلهم يشعرون بالانكسار وسقوط الحلم، الذي عاشوه لأكثر من عامين رغم كثرة الخيبات خلالها".

"
تجربة العسكريين المعارضين من أبناء دير الزور هي تجربة مريرة

"

ويتابع الضابط السوري المعارض "اليوم واقع الدير جداً معقد فأكثر من نصف أهاليها هجروها إما لمناطق داخل البلاد أو خارجها، ومن بقي فيها أنهكتهم صعوبات العيش اليومية، وملاحقة داعش لهم بأبسط تفاصيل حياتهم، أما شبابها فنثروا في أصقاع الأرض، من أوروبا إلى دول الخليج، باحثين عن فرصة حياة جديدة، وكثير منهم بدأ يبني مستقبلاً جديداً بعيداً عن دير الزور وعن سورية، التي لا تراوده حتى فكرة زيارتها"، مستبعداً أن "تنجح بعض الدعوات التي تخرج من هنا وهناك بإعادة جمع شباب الدير في تشكيل عسكري جديد لقتال داعش بسبب انهيار الثقة بينهم وبين الهيئات والمجالس والقوى التي تدعي تمثيل من على الأرض".

ويرى ناشطون معارضون أن "تنظيم الدولة" ينظر إلى الدير والرقة باعتبارهما سورية المفيدة بالنسبة له، لما تتمتع به من ثروات تؤمن التمويل الذاتي للتنظيم، وامتداده الجغرافي إلى مناطق سيطرته في العراق، وهذا ما يعني ان القضاء عليه في هذه المناطق بات يحتاج إلى قوة عسكرية كبيرة غير متوفرة اليوم في الميدان.