يمثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي باستفتاء شعبي حادثة تاريخية نادرة، يمكن التأريخ للأحداث الدولية ارتباطاً بها فيقال «قبل خروج بريطانيا» أو «بعد خروج بريطانيا». ومن الطبيعي أن يمتد تأثير مثل هذه الأحداث التاريخية ليطاول التوازنات الأوروبية ومن ثم الدولية، فضلاً عن تأثيراتها المباشرة على الأسواق والعملات والاقتصاد حول العالم. من المنطقي أن تأثيرات الخروج البريطاني ـ مثل أي حدث تاريخي كبير - تحتاج إلى وقت قد يستغرق سنوات للوقوف على أبعاده المختلفة، ومع ذلك تنشغل هذه السطور بجردة أولية تتناول تأثير ذلك الخروج على كل من إيران وتركيا، الدولتين الوازنتين في موازين القوى الشرق أوسطية.
الخروج البريطاني وإيران
أحدثت نتيجة التصويت في بريطانيا فورة من ردود الأفعال في إيران، بحيث طالت الطيف السياسي على اختلاف توجهاته وميوله الأيديولوجية. فمن قلب مكتب الرئيس الإيراني حسن روحاني، اعتبر حميد أبو طالبي مساعد روحاني للشؤون السياسية، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «فرصة تاريخية لإيران يجب اقتناصها». وعلى الجهة الأيديولوجية المقابلة، امتدح الجنرال مسعود جزايري نائب رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية، نتيجة التصويت البريطاني، معتبراً أنها «تظهر حالة الاعتراض الشعبي على السياسات الأميركية». وبرغم فورة التفاؤل في التصريحات الإيرانية من أطياف سياسية متناقضة، يبدو أن حالة عدم اليقين والسيولة السياسية التي تعيشها أوروبا حالياً قد تكون لها انعكاسات سلبية على الاتفاق النووي الإيراني مع الدول الست الكبرى. كان التنسيق مع الاتحاد الأوروبي والاستفادة من قدراته السياسية والاقتصادية أهم الأدوات التي عوّلت عليها إيران لتنفيذ بنود الاتفاق النووي، خصوصاً ما يتعلق منه برفع العقوبات على طهران. وفقاً لنصوص الاتفاق النووي، وبالتحديد الملحق الرقم أربعة من الاتفاق النووي، تم تحديد السيدة فريدريكا موغيريني، ممثلة الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسات الأمنية، باعتبارها «منسقة اللجنة المشتركة» لتطبيق بنود الاتفاق النووي مع إيران. كما أسّس الاتحاد الأوروبي «خدمة الفعل الخارجي»، الذي تُعد إيران من أبرز ملفاته، وتترأسها هيلغا شميدت الخبيرة في الشؤون الإيرانية، وإلى جوارها لجنة مكونة من سبعة خبراء أوروبيين من أبرزهم الديبلوماسي البرتغالي هوغو سوبرال للعمل على تطبيق الاتفاق النووي مع إيران، إذ إن إبرام هذا الاتفاق كان أحد النجاحات الديبلوماسية القليلة للاتحاد الأوروبي خلال السنوات الماضية. بهذا المعنى، إذا كان الاتحاد الأوروبي عاملاً مؤازراً للتوصل إلى اتفاق مع إيران، فقد أصبح الآن عامل مخاطرة. ويعود السبب في ذلك إلى أن «خدمة الفعل الخارجي» ستحوّل اهتمامها من التركيز على إيران إلى مواجهة تبعات الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، والتركيز على الداخل الأوروبي أكثر من اهتمامها بقضايا الخارج.
سيؤثر خروج بريطانيا سلباً على توفير مزايا اقتصادية لإيران، التي من دونها سيتعرض الالتزام الإيراني به إلى الاهتزاز. حتى الآن، تمثل العائق الأساسي في عدم جني إيران فوائد اقتصادية من الاتفاق في تردّد المصارف الدولية في العمل مع إيران بسبب الخوف من العقوبات الأميركية. ترددت معظم المصارف في الاستثمار داخل إيران قبل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ومن المتوقع أن تتردد أكثر بعد خروج بريطانيا منه. وتمثل العائق الثاني أمام توسيع التجارة مع إيران في بريطانيا نفسها. وكانت إحدى حجج المؤيدين للخروج من الاتحاد دائرة حول قدرة بريطانية أكبر على الاستثمار في الأسواق الصاعدة بعيداً عن الاتحاد الأوروبي، مثل أسواق الصين والهند وإيران. في هذا السياق، يلاحظ أنه كان مجدولاً أن يزور وفد تجاري بريطاني إيران العام الماضي لبحث الاستثمار البريطاني هناك، إلا أن الضغوط الخليجية تسببت في إلغاء الزيارة. وبرغم أن بريطانيا لها مبعوث تجاري في إيران، اللورد نورمان لامونت، المؤيد للتقارب الإيراني - البريطاني حتى من قبل توقيع الاتفاق النووي، إلا أن ألمانيا وفرنسا وإيطاليا سبقت بريطانيا في الدخول بصفقات مع إيران. العائق الثالث يكمن في ترتيب الأولويات البريطانية، حيث ستتغير أولويات بريطانيا الاقتصادية بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، بحيث يتم العمل على ضمان النفاذ البريطاني إلى الأسواق الأوروبية مثل إبرام اتفاقية تجارة مع الاتحاد الأوروبي ودوله السبع والعشرين الباقية. ومن المتوقع أن يكون ذلك ضمن عملية تفاوض مضنية وطويلة، وبالتالي لن تصبح إيران أولوية على الأجندة الاقتصادية لبريطانيا في الفترة المقبلة. بعبارة أخرى، يعني خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي خسائر محتملة لإيران على المدى القصير في ما يتعلق بنيل الحوافز الاقتصادية من الاتفاق النووي، ومكاسب ممكنة على المدى الطويل جراء توسيع هامش المناورة الإيراني حيال القوى الأوروبية المختلفة.
الخروج البريطاني وتركيا
احتفظت بريطانيا لنفسها بمسافة كبيرة نسبياً عن ألمانيا وفرنسا في قضايا متنوعة، من أهمها مسألة انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي. لم تخف برلين وباريس معارضتهما للانضمام التركي إلى الاتحاد، فيما دأبت بريطانيا على تشجيع الانضمام التركي إليه. ويعود السبب في ذلك إلى اختلاف رؤية بريطانيا للأخطار التي قد يمثلها الانضمام التركي، وفي مقدمها انتقال اليد العاملة التركية إلى دول الاتحاد الأوروبي، حيث لم تكن بريطانيا قبل خروجها من الاتحاد عضواً في «اتفاقية شينغن»، تلك التي تفتح الحدود الأوروبية أمام انتقال الأفراد بين الدول الأعضاء. كما أن الجزيرة البريطانية - بفعل الموقع الجغرافي - امتلكت حساسية أقل كثيراً من تغير الموازين الديموغرافية داخل دول الاتحاد (بالتحديد في جنوب ووسط أوروبا) جراء انضمام تركيا إليه. وبرغم عدم قدرة بريطانيا على إجبار الاتحاد الأوروبي بقبول الطلب التركي بالانضمام، إلا أن طلب أنقرة المزمن بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مثل وسيلة ممتازة بيد لندن للضغط على برلين وباريس في ملفات أخرى. في هذا السياق، يمكن اعتبار تصريحات ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني المستقيل بالغة السلبية حول انضمام تركيا كانت لأغراض دعائية تكتيكية صرف من أجل إقناع الناخبين البريطانيين بالبقاء في الاتحاد الأوروبي، ولا تمثل بالضرورة الموقف البريطاني التقليدي.
وفي فورة مماثلة للفورة الإيرانية الذاهبة إلى حد النشوة بنتيجة الاستفتاء البريطاني، اعتبر أتراك كثر أن تصريحات رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في ما يتعلق بانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، قد «انقلبت عليه». وكان كاميرون، قد قال في تصريحات له نهاية أيار الماضي أثناء حديثه عن انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي «إن بقيت أنقرة بالوتيرة نفسها، منذ تقديمها طلب الانضمام العام 1981، فإن انضمامها لأوروبا سيكون العام 3000». مباشرة بعد الإعلان عن نتيجة الاستفتاء البريطاني، أظهر استطلاع للرأي أجرته شركة «ماك» التركية للاستشارات والأبحاث، أن ثمانية وستين في المئة من الأتراك يريدون إنهاء مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي المتواصلة منذ نحو أربعين عاماً. وكانت الشركة التركية قد طرحت في الاستطلاع السؤال الآتي: «ماذا سيكون موقفك إذا جرى استفتاء على مواصلة المفاوضات من أجل انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي»؟ في المقابل، فضل ثلاثة وعشرون في المئة الاستمرار في المفاوضات، مقابل ثلاثة في المئة فقط لم يحسموا رأيهم بعد.
وإذ وصف وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو سياسات الاتحاد الأوروبي بـ «الفاشلة»، قائلاً إن «على الاتحاد تقييم الوضع الراهن تقييماً جيدا ودقيقا، خصوصاً عقب انسحاب بريطانيا من عضويته»، إلا أن فرص تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي باتت أقل مما كانت عليه في السابق بسبب فقدان الدور البريطاني الداعم. في الوقت ذاته، يفتح الارتباك الأوروبي وتغير أولويات الاتحاد بعد خروج بريطانيا منه نافذة الفرصة أمام تركيا لانتزاع تنازلات متنوعة منه، لا تتعلق بالانضمام إليه هذه المرة، بل بتأييد سياساتها الداخلية حيال الأكراد واندفاعتها نحو منطقة عازلة في شمال سوريا والضغط أكثر على الاتحاد الأوروبي في مسألة اللاجئين. باختصار، يعني الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي مكاسب محتملة لتركيا على المدى القصير في ما يخص توسيع هامش مناورتها حيال الاتحاد، وخسائر ممكنة على المدى الطويل جراء تعقد ملف الانضمام التركي إلى الاتحاد الأوروبي أكثر من أي وقت مضى.
مصطفي اللباد: السفير