فلسفة فهم التاريخ تستدعي من أي باحث أو إنسان يسعى إلى الحقيقة بأن يتعامل مع ماض مضى وأصبح وراؤه ولا يصله منه إلا أحاديث أو آثار أن يعمل عليها ويحللها لتمييز ما هو حقيقي مما هو أسطوري.
الغرب والتاريخ:
يحسب للغرب أنه قطع أشواطا كبيرة في دراسة تاريخه الخاص وتاريخ العالم وإمتلك قاعدة بيانات تعود لحوالي 13.7 مليار سنة وهو العمر العلمي للكون الذي توصل إليه العلماء.
وفي دراسته توصل إلى حقائق جديدة وكشف أسرار غامضة فسرت بطريقة خاطئة وتوارثتها الأجيال لتحولها إلى حقائق.
جاء الدين قبل العلم ليشرح ما هو غامض في الطبيعة فأعطى تفسيرا لها مع ما وصل إليه مستوى وعي الناس في تلك الحقبة أما ما عجز عنه فأعطاه تفسيرا ما ورائيا. لذلك القيمون على الدين أي الكهنوت والإكليروس عندما يعجزون عن إعطاء تفسير لظاهرة أو فكرة معينة يحيلون الأمر إلى " حكمة ربانية"، فما الحكمة وما المغزى؟ هذا ما يعجزون عنه.
الغرب إستطاع كف يد رجال الكنيسة عن أمور الدولة والمجتمع وأطلق العنان للعلم والعلماء بعد محنة عاشوها بصراع كان دام بين الكنيسة والعلم، إنتهى بإنتصار العلم أخيرا وأدى إلى النهضة الأوروبية والتطور الذي يعيشه الغرب.
قام الغرب بإزالة مفهوم" القداسة" وتعرض لبحث كل شيء بالتاريخ حتى فكرة وجود أو عدم وجود خالق لهذا الكون.
عالج الأمور بطرق علمية وتبنى منهجا كاملا قائما على التجربة والملاحظة والدليل والأثر.
ولم يأخذ المعلومة كما وصلته وحولها إلى حقيقة بل فسر المعلومة أو الرواية وعالجها كلاميا وأثريا وعلى أساس عدة معايير ليحكم إذا كانت حقيقة أو أسطورة وتغيرت حينها الكثير من المفاهيم كتبني الفاتيكان وبعد جدال طويل نظرية الإنفجار الكبير ونظرية التطور.
فالتاريخ خاضع لديهم لمعايير ومستويات كلها قائمة على الملاحظة أو درس الأثر بطريقة منهجية وعلمية بعيدا أولا عن الذوق العام للبيئة المحلية او ما تتبناه من مفاهيم عن ظاهرة معينة.والبينة الجلية هنا هو نجاح رواية أو قصة تاريخية بإختبار العلم.
صراع الفلاسفة والأنبياء:
يقال أن الفلاسفة هم أجداد العلماء وهم من أسسوا لمفهوم العلم عبر التاريخ. كانت نقطة الصراع منذ تبلور الوعي الإنساني بين النبي والفيلسوف. فالأول كان يقدم مادة ما ورائية بعيدا عن الحس والتجربة وأحيانا بعيدة عن المنطق والعقل والثاني كان يشبهه نوعا ما لكنه كان أكثر منطقية وإقناعا.
تمحور عمل الفلاسفة حول تحقيق هدف واحد هو الوصول إلى الحقيقة الكاملة ومعرفة الحكمة، وإستنتج بعضهم أن هذه الحكمة والحقيقة هي الله بينما كثر توصلوا إلى معنى آخر مغاير.
شرحوا أساسيات الأمور بالمنطق والعقل وكرموا العقل، وكان هذا البناء الأساس لما وصل إليه الغرب من تبني للمادية كأسلوب حياة.
أما الأنبياء فسعوا دائما إلى زيادة الغموض أكثر من فكه، وتعاملوا بأسلوب المعجزات وكسر قوى الطبيعة كرسالة إثبات لوجود الله وأعلميته في صراع الأفكار والنظريات.
وكثيرا ما حذروا من الفلاسفة ووصفوهم بالزنادقة والكفرة الذين لا يؤمنون بفكرة الإله على الرغم أن بعض الفلاسفة كان يؤمن بذلك ولكنه آمن بفكرة الله الذي يراه هو لا كما قدمه الآخرون.
ومن هذا الصراع، تجلت لنا حقائق التاريخ وكذبه.
كيف نحكم اليوم على الماضي:
مفهوم الماضي والحاضر والمستقبل يختلف فيزيائيا عما هو شائع بين عامة الناس، فالتقسيم لا يأخذ هذا المنحى علميا، وشرحه بحاجة إلى تفصيل لأن الموضوع معقد.
لكن لو أخذنا التفسير الشائع، كيف نحكم على هذا التاريخ؟
نحن نولد في مجتمع معين يدين بديانة أو معتقد ما، ومنذ صغرنا يطعمونا بأفكار وحقائق ويقدمونها على أنها مقدسة. مع الوقت نكبر لنرى أن ديننا هو الصحيح و ال 4000 ديانة الموجودة في المعمورة هي الخطأ، متناسين الحكمة وحتى أسس العدل في هذا التوزيع الغير عادل.
قد يخلق الانسان في منطقة تدين بدين ما وبجانبه منطقة تدين بآخر، ويتبنى دين منطقته لأنه تربى على ذلك، وهذا الحكم على التاريخ وعلى الحقيقة من هذه الزاوية خاطىء علميا وفكريا وإنسانيا.
وأول سؤال يتبادر على ذهن أي باحث عن الحقيقة ومتمرد على الواقع، لماذا إله المسلمين على حق وإله المسيحيين على باطل؟ وما الدليل على أن عيسى أو محمد أو موسى فعلوا معجزات؟ فنحن لم نعاصرهم ولم نعش تلك الفترة وحتى هناك أناس عاصروهم ولم يؤمنوا بهم، فلماذا لم يؤمنوا بهم وهم عاصروهم ورأوا المعجزات كما يقال؟
وسؤال آخر تشكيكي أكثر، لماذا حفظ الله كلامه في القرآن ولم يحفظه في الإنجيل والتوراة وهما كتابان يحملان كلامه أيضا؟ لماذا هذا الإصرار على زيادة الشك في داخل كل إنسان كلما تعمق في الدين؟ ولماذا يمنع رجال الدين السؤال عن أمور حساسة ويتهمون مطلقيها بأبشع الصفات؟
هذه أسئلة تتكون داخل كل إنسان عندما ينظر إلى التاريخ بعلمية لا من منظور دينه أو بيئته. وهذه أسئلة تدخل الشك لأن الإنسان في طبعه يعشق الشك وأول الطرق للوصول إلى اليقين هو أن تشك وإلا لا معنى لإيمان نتغنى به ونعتبره حقيقة فقط لأننا بالصدفة ولدنا في مجتمع يدين بهذه الحقائق والدين.
تعاطي الإسلام والعرب مع التاريخ:
ما يعيشه العرب خصوصا والمسلمون عموما من تخبط وتخلف يعود إلى عدم قراءة التاريخ بالطريقة العلمية الصحيحة بل قرأوه بأسلوب ما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم وتوقفوا من دون أن يدققوا فيه أو يبحثوا عن الحقيقة بحيادية وبعيدا عن ذوق مجتمعهم ومشاعرهم.
لعل معنى الحرية الذي تفتقد إليه المجتمعات العربية هو السبب ولكن حتى الموقف من الحرية المتخذ اليوم له رابط تاريخي مع ثقافة المجتمعات العربية والإسلامية المحافظة والتي تقوم على إحترام الآخر والطاعة له بسبب عمره لا علمه.
ولم يكتف المسلمون بتبني الماضي من دون تدقيق بل حاولوا أن يسترجعوا هذا الماضي. فليس غريبا أن تاريخ العرب والمسلمين الذي يعتبروه مجدا هو تاريخ الغزوات والقتل والسبي لا التاريخ الذي شهد أطروحات فكرية وثقافية طمست من قبل أجهزة الحكم الإسلامي في حينه.
فحتى إختيار العرب لتاريخهم قائم على ما هو عنيف ودموي ومرتبط بأسباب ما ورائية لا فكرية أو نهضوية.
ويتساءل البعض، أين تاريخ العرب قبل الإسلام؟ ولماذا هذه الشيطنة المتعمدة لتلك الفترة؟ ولماذا أيضا يختصر تاريخ العرب قبل الإسلام بقريش فقط ولا يتكلمون عن الحضارات النبطية واليمنية وغيرها؟
أضف أن هناك إصرار على جعل نهضة التاريخ العربي مرتبطا بمجيء الإسلام، وهذا خطأ فادح لأنه وجد ملوك وشعراء وفن وحضارات حتى القرآن ذكرها فيما المسلمون يحاولون طمسها.
هذه الشيطنة للتاريخ أو تقديسه هي تراكمات ورثناها فقط ولا دليل على صحتها أو حتى بطلانها إلا بإخضاعها لأدوات العلم الحديث وحينها سنصل إلى نتائج مشجعة.
أما الضياع فمستمر ما بقيت العقلية العربية على هذا المنوال. وما يثير الإستغراب أن المسلمون متفقون على عدم تحريف القرآن لكنهم مختلفون على تفسيره، وللأسف أفضل تفسير له لا يلائم هذا العصر.
وكأن الإختلاف سمة ملازمة لعقلية المسلم وقدرا مكتوبا، فلا يوجد شيء إلا ويختلف عليه مع الآخر لعدم معرفته بالأسس الصحيحة للعلم فهو حين يحاول تبني العلم، يشوه هذا العلم أو يأخذ منه ما يعجبه ويرفض الباقي.
ومثال صغير على تعلق العرب وتقديسهم لتاريخهم وعبادتهم للأشخاص والأفكار السيئة، قصة إختلاف أماكن دفن بعض أبطالهم وشخصياتهم أي ما يعرف بالمقامات، فترى لشخصية إسلامية أكثر من مقام وفي كل مقام يتبنى الساكنون حوله رواية ورثوها من قبل عن أن هذه الشخصية دفنت هنا أو هناك، فيتحول المكان إلى مقدس. وأنا أطرح هذا السؤال لأن قصة المقامات بات لها إرتباطات سياسية عابرة لحدود الدول العربية وأريقت دماء من ورائها وكفرت طوائف لأجلها وهدمت بلدان.
هذه المقامات لو أردنا معرفة في أي مكان دفنت هذه الشخصية أو تلك فبالتأكيد سنعرف وبنتيجة يقينية. ولكن كيف؟
مجرد فحص DNA وتتبع لآثار المقام وعمره عبر الفحص الكربوني يمكن تحديد هوية المدفون وعمر المقام وإستنتاج القصة الحقيقية وإنهاء المشكلة والتوحد حول رأي واحد، وهذه هي طريقة العلم في البحث والتقصي عن الماضي والتاريخ.
أما لو تركناها للعقلية العربية والإسلامية، فسيحرمون ذلك لقدسية وحرمة صاحب القبر وسيستمر الخلاف والصراع والتخلف والدماء.
أطرح هذا المثال لأظهر عقليتين ونتيجتين. عقلية تؤمن بالعلم ستؤدي إلى الحقيقة وعقلية تؤمن بالتقديس والرواية المتوارثة فقط وستؤدي إلى مزيد من الإختلاف بالحد الأدنى.
فالعرب ليقرأوا تاريخهم، عليهم أن يتبنوا العقلية المناسبة لأنه حينها سيدركون أن معظم ما يعرفوه هو مجرد وهم.
فالسيرة النبوية والتي يرجع إليها اليوم الجميع كتبت بعد 120 سنة من وفاة النبي على يد محمد بن إسحاق وإعتمد فيها على الروايات الشفهية وكان منحازا في سرده للعباسيين على حساب الامويين. وجاء بعده إبن هشام ونقح كتابه وأزال الأخطاء منها وقدم كتاب سيرة إبن هشام.
العبرة من هذه الرواية هي أن الإختلاف كان قائما حتى بعد مرور قرن من وفاة النبي.
فهل نعرف ما هي الأحداث التي جرت وتغيرت خلال هذا القرن؟ وما مدى صدقية أو ثبات الوضع الصحي للتابعين الذين نقلوا الروايات لإبن إسحاق؟ ولماذا إختفى كتاب إبن إسحاق ولا يوجد نسخة أصلية له؟ ومع من الحق مع إبن إسحاق أو إبن هشام؟
أما الحديث فبدأ المسلمون بكتابته وتدوينه حوالي القرن الرابع للهجري أي حوالي 400 عام بعد وفاة النبي، وهذه مدة زمنية ضخمة وكفيلة لجعل العرب يفكرون مرة جديدة في التراث الموجود بين أيديهم.
وهم بحاجة لتبني أدوات علم التاريخ والآركيولوجيا أي الآثار والأبيغرافيا أي علم النقوش والكتابات القديمة وعلم الميثولوجيا التي تعنى بدراسة الأساطير والخرافات والأثنوغرافيا أي دراسة وصفية للمجتمعات والأثنولوجيا وهو علم تأريخ الحضارات إضافة إلى علم الإجتماع وعلم الإنسان المسمى ب الأنثروبولوجيا وغيرها من العلوم.
وهذه العلوم تقدم لنا التاريخ الحقيقي لا المزاجي أو الذوقي.
فالتاريخ مهم لفهم الحاضر والمستقبل وسوء فهمه هو ما حول مجتمعاتنا إلى هذا المستوى من اللاوعي والتطرف.
لو بحثنا علميا في تاريخنا سنجد أن أكثره وهم متراكم عبر السنين والقرون حوله هذا التراكم إلى حقيقة.
نعم، أكثر من مئة عام وسيرة النبي لم تحفظ بكتيب بل بألسنة وأنفس كانت تغيرها الظروف والأمزجة. هذا الرقم كفيل بجعلنا نفكر مرتين قبل أن نتبنى شيء من هذا التاريخ الغامض.
وعلى العرب أن يعرفوا كيف يفكروا ويحللوا تاريخهم لبناء مستقبلهم وإلا سيبقون في مؤخرة الأمم.
إما التمسك بتاريخ غير موثوق أو الإنطلاق نحو المستقبل وتجاهل الماضي.
الخيار الثاني هو من سيوصلنا إلى المريخ كعرب.