طوال نحو أربعين عاما ، ظل البريطانيون يتندرون بان بلادهم لم تنضم الى الاتحاد الاوروبي، بل ان اوروبا هي التي التحقت بالمملكة المتحدة واصبحت جزءاً من مجموعة الجزر البريطانية. انتهى مفعول تلك النادرة الان، عندما قرر الناخب البريطاني عن وعي وعن تصميم، ولو بغالبية بسيطة لا تتعدى الثلاثة بالمئة ان ينعزل بنفسه وببلده عن القارة العجوز. لكنها ليست عزلة بريطانية من جانب واحد اذا جاز التعبير. هذه المرة ايضا يبدو ان القرار الاوروبي بالانفصال عن البر البريطاني سبق قرار ناخبي المملكة المتحدة.
فالحدود والقيود التي سبقت قيام "السوق الاوروبية المشتركة"في خمسينات القرن الماضي، باتت لغة الحاضر اليومية، وصار المشروع الاوروبي يواجه الشكوك والمخاوف نفسها التي جرى تخطيها عندما تم الاتفاق على عملة موحدة وعلى جغرافيا سياسية واحدة.. وعندما تم التفاهم على استثناء بريطانيا من تلك المعايير ، واحترام خصوصيتها المالية والحدودية .. وهويتها التي كانت على مر التاريخ تتعالى على البر الاوروبي. السؤال الاوروبي يزداد صعوبة: هل فقد ذلك التكتل السياسي والاقتصادي والاجتماعي المتجانس الى حد بعيد جدواه التي كانت تتصل بنهايات الحرب العالمية الثانية وبدايات الحرب الباردة لكنها تراجعت مع تفكك المعسكر الاشتراكي الشرقي، الى ان إختلت مع الازمة الاقتصادية العالمية الكبرى التي تسبب بها الاقتصاد الاميركي في العام 2008 ؟
السبب الاقتصادي حاسم. ضاق نادي الاغنياء الاوروبيين بالاعضاء الجدد الآتين من شرقي القارة، باعبائهم وهجراتهم المتلاحقة التي خفضت معدلات النمو وزادت معدلات الفقر ..والتطرف اليميني الفاشي الذي بات اليوم العنوان الاوروبي الرئيسي، والوعد الاهم والاخطر الذي تقدمه القارة كلها لنفسها وللعالم أجمع..والذي يعيد الى الاذهان التجارب الفاشية التي حكمت الاوروبيين في مطلع القرن الماضي. لكنه ليس صراعا طبقيا، وفق التعريف الماركسي ،بين دول اوروبية غنية ودول اوروبية فقيرة.
هو اشبه ما يكون باشتباك بين فقراء القارة الاوروبية الذين وضعتهم النخبة الاوروبية السياسية والاقتصادية في مواجهة بعضهم البعض. بدايات الاشتباك هي الان في تنحية تلك النخبة ورموزها الحاكمة والمعارضة والبحث عن بدائل تعبر عن العصبية الوطنية المتجددة في كل بلد اوروبي. الاستفتاء البريطاني هو صدى لنمو اليمين الاوروبي والعالمي المتطرف الذي انتجته واحدة من اسوأ الازمات الاقتصادية منذ الحرب العالمية الثانية.
صوت البريطانيون ضد حزبي المحافظين والعمال وافسحوا المجال لحزب "الاستقلال" الانعزالي لكي يتحول من قوة ثالثة الى قوة ثانية او ربما أولى في المملكة المتحدة. تلك هي القصة في جميع بلدان الاتحاد الاوروبي من دون استثناء..وفي مختلف انحاء العالم ايضا.
انه تصويت ضد الهجرة الاوروبية الداخلية واكلافها المتزايدة. لكنه ايضا تصويت استمد من الاسلام والهوية الاسلامية لتركيا المرشحة بجدارة لدخول ذلك النادي الثري ، زخماً اضافياً، وتحول في بعض الاحيان الى هاجس اوروبي اول على الرغم من ان نسبة المهاجرين المسلمين الى اوروبا لا يزيد عن عشرة بالمئة عن نسبة المهاجرين الاوروبيين بين بلدان القارة نفسها.. كما ان نسبة السوريين منهم لا تزيد عن خمسة بالمئة ، وقد لا تصل الى مئتي الف لاجىء، بالمقارنة مع مئات آلاف اللاجئين الاوروبيين والاسيويين الذي يعبرون الحدود الاوروبية بشكل شرعي او بالتهريب. الاسلام براء من الاستفتاء البريطاني والاتجاه الاوروبي العام.
وهو ما تقوله النخبة الاوروبية نفسها. لكنه كان وسيبقى حجة رئيسية لتعبئة فقراء اوروبا، لا يعوزها الدعم الذي يقدمه "داعش " بين الحين والاخر لقرار هؤلاء الفقراء بالعزلة داخل حدود وطنية،يمكن ان تضيق على البريطانيين كما على بقية الاوروبيين ، لكي تصبح في حدود إمارات صغيرة تبحث عن الرفاه الاقتصادي فلا تجده سوى في التوتر السياسي .
(ساطع نور الدين- المدن)