عقد وزراء الدفاع في روسيا وسوريا وإيران اجتماعا في طهران في التاسع من الشهر الجاري. تمّ التحضير للحدث بموجة تكهنات ضخّها الإعلام القريب من دمشق وطهران عن القرارات الاستراتيجية الكبرى التي ستُتخذ، لا سيما في شأن سوريا. وتمّ الإيحاء بعد الاجتماع الذي لم يتسرّب عنه الكثير، أن “الصمت أصدق أنباء من الكتب”.

قدّمت إيران، من خلال أبواقها الإعلامية وتصريحات مسرّبة في صحافتها، أمر قمة الدفاع الثلاثية في عاصمة الوليّ الفقيه على أنها تصويب للأداء الروسي في سوريا، وربما تعنيف لوزير الدفاع القادم من موسكو بسبب ضبابية موقفها من الحرب في سوريا، وبسبب نزوع الروس نحو مجاراة الأميركيين في القبول بالهُدَن ووقف الاندفاعات العسكرية، لا سيما باتجاه حلب.

جرى تطبيل إيراني في صحافة “الممانعة” في بيروت يطلق أبواق معركة الحسم في حلب على إثر الاجتماع الثلاثي الشهير في طهران. قيل هناك إن ما قبل الاجتماع غير ما بعده، وأن بشار الأسد إذ يصرّح أن حلب ستكون “مقبرة آمال أردوغان”، لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي إيراني – روسي بامتياز.

صدقت صحافة التطبيل في بيروت. ما قبل ذلك الاجتماع ليس كما بعده. وما بعده هزيمة ساحقة لتحالف دمشق وطهران، ونكسة دموية كبرى لحزب الله. تزايدت أعداد قتلى الحزب بعد هجوم شنته قوات المعارضة في الريف الجنوبي لحلب، وتحوّلت الحشود الإيرانية والميليشيات التابعة لها من موقع الهجوم إلى موقع التقهقر والدفاع، ما أحدث ارتباكا وتململا وشيوع أنباء عن اشتباكات بين وحدات لحزب الله مع وحدات للجيش السوري التابع لدمشق، وما برر، في ما بعد، الاستعجال في إرسال الجنرال قاسم سليماني إلى هناك.

باختصار، وبالمقاييس العسكرية، لا يمكن لقوات النظام في دمشق ولحلفائه المستوردين من إيران ولبنان والعراق وأفغانستان…إلخ أن يحققوا أي إنجاز يُذكر دون انخراط روسي جوي وصاروخي في معارك الكرّ والفرّ. وواضح أن الطرف الروسي المعنيَّ برسم إستراتيجياته بالشراكة مع إسرائيل في المنطقة (أولا)، ومع الولايات المتحدة في العالم، غير معني بأجندة إيران والخطط المحلية التي ترسمها وميليشياتها في الميدان السوري.

لم يعد الغضب الإيراني من “السلوك” الروسي مكبوتا. باتت المنابر في طهران تجاهر في انتقاد الخيارات العسكرية لموسكو إزاء سوريا، وبات مسموحا لحزب الله (من خلال شبكات أنصاره الإعلامية) أن يجاهر في تحميل موسكو مسؤولية ارتفاع حصيلة خسائره الأخيرة. وتضاف نكسة ريف حلب إلى سابقتها في منطقة خان طومان، حيث سجلت المعارك هناك خسائر بشرية غير مسبوقة في صفوف الميليشيات الإيرانية، وذلك بعد مقتل 30 جنديا إيرانيا، و20 من ميليشيات شيعية أفغانية، و12 عراقية، و8 من حزب الله اللبناني، و20 جنديا من قوات النظام، إلى جانب العشرات من الأسرى والجرحى.

ولئن كان مشهد سحب الغطاء الجوي الروسي عن جماعات إيران في أرياف حلب واضحا وجليا، فإن الأمر يربك خطاب حزب الله داخل جمهوره في لبنان، كما يربك أصحاب القرار السوري في إيران، لكن الأمر، وحتى إشعار آخر، لا يسبب تصدّعا كبيرا، علنيا على الأقل، في الحلف الذي يجمع طهران بموسكو.

لا يهتم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للاعتبارات الإيرانية في سوريا. الرجل حريصٌ على الحفاظ على علاقات تعاون وشراكة مع الدولة الإيرانية، ولا يمانع في مراعاة مصالح طهران “الآنية” في سوريا، لكن أجندة موسكو في سوريا يحددُها الكرملين، الذي لا يأخذ بالاعتبار إلا مصالح روسيا والاعتبارات الروسية بالرؤى التي يقررها بوتين نفسه فقط. وواضح أن عقارب السـاعة الروسية لا تتوافق مع تلك في طهران ودمشق وحارة حريك، وأن موسكو التي لا يمكنها (أو لا تريد) وقف الهجمات التي تشنّها قوات طهران، الإيرانية والأجنبية، في سوريا، غير ملزمة بتقديم أي دعم لـ”مغامرات” لا تصبّ حساباتها في أجندتها.

وبغضّ النظر عن نوبات الغضب وزلّات النزق (إنذار جون كيري لموسكو مؤخرا مثالا) التي تعبّر عنها واشنطن إزاء إستراتيجيات موسكو في سوريا، فإن الولايات المتحدة وروسيا شريكتان، وتكاد تكونان حصريتين، في الشأن السوري، وأن خطوط الخرائط السورية تقرر فقط بين موسكو وواشنطن، بمعنى لن يسمح للشركاء “الثانويين” بالعبث بها. والظاهر أن “معركة حلب”، ذات الحساسية التركية، لم تحظ بضوء أخضر يسمح باستقرار العامل الإيراني في أرياف المدينة، على ما يفسّر غياب الغطاء الجوي الروسي العتيد.

ولطالما أوحى خبراء الأمن في العالم أن انتفاخ الورم الإرهابي في سوريا قد يكون ناتجا عن غضّ طرف دولي أتاح للجهاديين في العالم أجمع الـ”حجّ” صوب هذا البلد. يذهب الممسكون بملفات مكافحة الإرهاب في العالم إلى ملاحظة تطاحن كل الجهاديين، سنّة وشيعة، داخل ذلك الميدان، على نحو يُشتبه في أنه شراك جنوني لمحاصرة العنف الجهادي السني والشيعي داخل المحرقة السورية. وإذا ما كان لذلك الرأي بعدٌ مؤامراتي جهنمي، فإن الوقائع السورية قد لا تكذّبه كثيرا.

تعبّر واشنطن من خلال العقوبات المالية، لا سيما المصرفية، التي تفرضها على حزب الله وشبكاته، عن عزم جدي على حصار الحزب وتقويض حركته. تنطلق الولايات المتحدة، منذ الاتفاق النووي مع طهران، من أن تطبيع العلاقة الدولية مع إيران، يستدعي قطع امتداداتها الميليشياوية غير المفيدة. والتعبير الأخير يفسّر التصويب على حزب الله دون ميليشيات عراقية تابعة لإيران ما زال بالإمكان الاستفادة منها، وحتى إشعار آخر، في الحرب ضد داعش في العراق (راقب بدء الدعوات لاعتبار الحشد الشعبي في العراق إرهابيا).

بالمقابل تشاطر موسكو واشنطن في تصنيفها لحزب الله، وهي وإن كانت معنية بتطوير العلاقة مع طهران، فهي ليست ملزمة بمراعاة ميليشياتها التابعة خارج إيران. ويكفي تأمل التطوّر اللافت الأخير للعلاقات الروسية الإسرائيلية، كما تأمل اليد الإسرائيلية الطولى في اقتناص أهداف للحزب في سوريا تحت “الرعاية الروسية” هناك، لاستنتاج مكان الحزب ومكانته في الحسابات الروسية.

 

 

 

على أن اللقاء الذي جمع وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو وبشار الأسد، والذي عقد على ما تسرّب داخل قاعدة روسية في سوريا، يرجح أنها حميميم، كما أن مشهدية الاجتماع لجهة حضور الرئيس السوري الاجتماع وحيدا دون وفد مرافق، ولا حتى مرافقة وزير الدفاع السوري بروتوكوليا له، وتقصّد الطرف الروسي تسريب صور اللقاء إلى الإعلام الدولي، تعكس نيّة روسية في تذكير من يهمهم الأمر، لا سيما طهران عامة، وحزب الله خاصة، أن قرار الحرب والسلم في سوريا، وفق الوكالة الدولية الممنوحة لروسيا في هذا الشأن، هو في يد موسكو، وقد تقرره غرفة مغلقة في قاعدة روسية هناك، ولا يقرره اجتماع وزراء الدفاع في طهران.

 

محمد القواص: العرب