تُشكّل مراكز الاستطلاع وقياس الرأي العام في الدول "الكاملة الأوصاف" واحدة من ركائز العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فلا يمكن إدارة شعب من دون فهم اتّجاهاته وحاجاته.في بلادنا العربية ومنها المشرقية، تغيب تلك المراكز لتُشكّل صفحات التواصل الاجتماعي عبر المواقع الإلكترونية الافتراضية المساحة الأكثر تعبيراً عن آراء واتجاهات الرأي العام، سواءٌ كان عاماً بالمعنى الشامل على مستوى الوطن، او بالمعنى الضيّق طائفياً، مذهبياً، وحزبياً.
وإذا كان المثل اللبناني الرائج قد قال "خذوا أسرارهم من صغارهم"، فيصدق القول اليوم: "خذوا أخبارهم من صفحاتهم الإفتراضية".
وفي صلب الموضوع لم يعُد هَمساً الحديث السلبي الى حدّ التذمر عن الدور الروسي، من شريحة واسعة من جمهور "محور الممانعة" ليس على الصفحات الشخصية الإفتراضية وحسب، بل على ألسنة وبأقلام بعض الكتاب ووسائل الإعلام القريبة والمحسوبة على بعض أفرقاء المحور.
همس يكاد يعلو الى حدِّ الضجيج كلّما حضرت في وسائل الإعلام البيانات الروسية الرسمية التي تدعو الى تثبيت "الهدنة"، المصطلح الأكثر استفزازاً للجمهور الممانع من سوريا الى لبنان. فهل وقَع "الطلاق" بين روسيا و"محور الممانعة" أم أنّه مجرّد "سوء تفاهم"؟ يستفيض ديبلوماسيٌّ روسي قبل الإجابة عن السؤال في شرح عمق المعركة التي تدور على الأرض السورية، وأبعادها السياسية والاقتصادية قبل تناول الجانبين العسكري والأمني، مقدّماً جردة حساب سريعة في البعد السياسي وبوابتها الفيتو الروسي - الصيني المزدوج، في 4 تشرين الأول 2011 في مجلس الأمن الدولي ضد مشروع قرار غربي، في أولى المواجهات بسلاح "حق النقض" بعد غياب لعقود وتفرّد أميركي بإستعمال "الفيتو" غالباً في مواجهة قضية العرب المركزية فلسطين.
سلاح الفيتو هذا تكرّر استعماله روسياً وصينياً عند كل قرار غربي في مواجهة الحكومة السورية.
أما مسألة "الهدنة" الأكثر صخباً وإشكالية لدى جمهور "الممانعة"، فيقاربها الديبلوماسي الروسي من زاوية مختلفة، مذكِّراً بموقف الاصدقاء في الحكومة السورية والجمهورية الايرانية من تشديد على أهميّة الحلّ السياسي كطريق أساس للأزمة السورية.
فالهدنة حسب النظرة الروسية ليست إلّا "بروفة" ومقدّمة إلزامية للحلّ السياسي الذي لا يريد الروسي أن ييأس منه.
فتركُه جانباً يعني حرب إستنزاف ذاق الروس كأسها المرّ في افغانستان قبل الإنسحاب الكبير.
حرب قد لا تنتهي بعقود طويلة نظراً إلى الدعم المباشر الذي تتلقاه المجموعات المسلّحة من دول كبرى، وفي فصوله الأخيرة حسب المصدر الروسي الدعم التركي المباشر بما يقارب 1500جنديٍّ شاركوا في الإشتباكات الواسعة في قرى ريف حلب الجنوبي تحت راية "النصرة" وكانوا من اسباب تسجيل الخسارات المرتفعة لدى قوات الجيش السوري و"حزب الله".
تدخّل تركي مباشر مثبّت ببراهين تقنية عسكرية واستخبارية وضعتها الادارة الروسية على طاولة الاميركيين الذين سبق وتراجعوا عن إلتزامهم مع الادارة الروسية بالشروع نحو خريطة طريق للحل السياسي تبدأ من الدستور الجديد مروراً بإنتخابات تحت إشراف ورقابة دولية، فحكومة شراكة وطنية بصلاحيات دستورية واسعة، ليعودوا ويضعوها في ثلاجة انتظار الإدارة الاميركية المقبلة إرضاءً لأصدقائهم الإقليميين وخصوصاً الأتراك والخليجيين.
جردة حساب روسية ببُعدَيها السياسي والعسكري يُصدّق على جزئها الاول أحد أبرز المطلعين على صناعة القرار داخل محور الممانعة، خصوصاً في جانب المعارك السياسية في أروقة مجلس الأمن والموقف الروسي الصلب.
ويروي تفاصيل الاتصال الذي تلقاه احد ابرز المسؤولين السوريين من وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عشية الفيتو الأول ليدعوه الى مبنى الخارجية في وقت متأخر، وكيف طلب منه الوزير المخضرم لحظة وصوله رفع أنخاب الكأس الأول في مواجهة التفرد الأميركي داخل مجلس الأمن.
وفي ردٍّ مباشر من المصدر على السؤال الأساس لجهة "الطلاق" مع روسيا، يدعو "الممانع" الى ضرورة التمييز في العلاقات بين التحالف والشراكة والصداقة، واصفاً الروس بالأصدقاء والشركاء في معركة مواجهة الإرهاب والتطرف، أما علاقة ايران وسوريا الأسد و"حزب الله" فهي أشبه بالجسد الواحد الذي اذا ما اشتكى منه عضو، تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى، مستعيناً بالحديث النبوي الشريف.
وعن الصخب لدى جزء كبير من جمهور "الممانعة" تجاه الموقف الروسي، يجيب المصدر: "التمييز ضروري بين الموقف المحارب والموقف المفاوض، للجانب الروسي دور المحارب الذي وصل الى ذروته في ظلال "السوخوي" الى أن إنتقل الى دور المفاوض لدى الولايات المتحدة الاميركية والمجتمع الدولي وتلك لعبة مختلفة الأدوات والتعابير، وهذا ما نتفهّمه بلا أيّ لبس".
وعليه يبدو أن لا طلاق سياسياً او عسكرياً بين روسيا ومحور الممانعة وما يحصل أشبه بـ"سوء الفهم" لحقيقة الدور الروسي وطبيعته عند العموم منه، لـ"سوء التفاهم" بين الطرفين كما يقول اهل الخصوص والدراية، لكنّ هذا كلّه يبقى وفق وجهتي نظر متفقتين الى حدّ التماهي مع قيادة الطرفين.
اما بعض المنتمين الى الفريقين من خارج نادي الديبلوماسية فيقولون كلاماً أقل حدة من رأي الجمهور لكنه أدنى زهرية من رأي قريبي صنّاع القرار لدى الطرفين الروسي و"الممانع".
ومن الاسئلة التي تتشقّق من بين النوافذ المغلقة: "هل صحيح أنّ الإيرانيين الذين أقنعوا الروس بالتدخل العسكري المباشر بعد ثلاث زيارات لقائد فيلق القدس قاسم سليماني أخلّوا بما تعهّدوا بتنفيذه أرضاً في مقابل الدعم جواً؟
وفي المقابل، هل صحيح أنّ انخفاض سعر صرف "الروبل"، عملة بلاد القيصر، في مقابل الدولار ووصوله عشية ذروة التدخل الى 86 مقابل الدولار الواحد، دفع الرئيس فلاديمير بوتين الى التراجع ومعه تراجَع سعر الصرف الى حدود 62 روبل؟
أسئلة خرجت الى ضوء البحث في إنتظار الأجوبة الدقيقة والمراجعة التي بدأت بعيداً من الأضواء بين قادة المحور وروسيا الإتحادية. لكنّ الأكيد أن لا طلاق عسكرياً او سياسياً قد وقع، ولن يمرّ وقت طويل ليزول "سوء التفاهم" بين القادة أو "سوء الفهم" لطبيعة الموقف عند الرأي العام الممانع، بكلام واضح من المعنيين عند الطرفين.
(الجمهورية- سالم زهران)