أخفقت طاولة الحوار في التفاهم على قانون الانتخاب، وتناقضت ردود أطرافها على مبادرة الرئيس نبيه بري، فكان لا بد من الاستنجاد بـ«أرنب» جديد، يتحايل على الوقت الذي يمر سريعا.. في انتظار أن تدق ساعة الحقيقة وينبعث «قانون الستين» من قبره، استكمالاً لـ«المعجزة اللبنانية»!
النجاح متعذر، لكن الحوار سيستمر. هذا هو «قانون الجاذبية» الذي لا يزال يمنع طاولة الحوار من الانهيار، مع أنها فشلت حتى الآن في تحقيق اختراق على أي مستوى من مستويات الأزمة المركّبة، سواء بالنسبة الى قانون الانتخاب، أو رئاسة الجمهورية، أو فتح أبواب مجلس النواب.
والمفارقة، أن هيئة الحوار أصبحت، برغم إخفاقاتها، أقرب الى مؤسسة قائمة بحد ذاتها، ليس فقط لجهة طبيعة وظيفتها ومضمون جدول أعمالها، بل حتى لجهة أبسط التفاصيل الإجرائية واللوجستية التي تنظم عملها، كما يتضح من خلال توزيع أوراق رسمية على المتحاورين كتب عليها تباعاً: «الجمهورية اللبنانية ـ مجلس النواب ـ هيئة الحوار الوطني».
مع كل جلسة يتجدد الفشل، بأشكال ومسميات مختلفة، لكن الإعلان عنه رسمياً ممنوع، لأن لا أحد مستعد لتحمل أعباء فاتورة اعتراف من هذا النوع، ستكون له ارتداداته وتداعياته على الاستقرار، وحتى على المتحاورين أنفسهم.
ولئن كان السبب الظاهر لإرجاء موعد الجلسة المقبلة قرابة شهر ونصف الشهر، يعود الى ارتباطات متنوعة للمتحاورين، لكن الأرجح أن نوعاً من «الرهان الضمني» والمشترك على الوقت هو الذي دفعهم الى التوافق على التأجيل الطويل المدى، لعل «الزمن» يحمل تطوراً داخلياً أو خارجياً يكسر حالة المراوحة في «المكان».
ولذلك، تم أمس تأجيل مواجهة الحقيقة مرة أخرى، وقرر الجميع الهروب مجدداً الى الأمام، وتحديداً الى 2 و3 و4 آب المقبل، حيث ستلتئم هيئة الحوار مجدداً في «خلوة» أو بالأحرى في «سلة»، بحثاً عن تسوية بالجملة بعدما تعثر بلوغها بالمفرّق، وهي مهمة تشبه، استناداً الى المعطيات الحالية، التفتيش عن إبرة في كومة من القش المحلي والإقليمي.

وبهذا المعنى، يكون الأمر الواقع قد فرض على المتحاورين استخدام «الباب الخلفي» الذي سبق أن لحظته مبادرة بري، والمتمثل في الدعوة الى مقاربة ملفات الرئاسة والحكومة وقانون الانتخاب دفعة واحدة، إذا تعذر التوافق على قانون انتخاب حصراً، مع الإشارة الى أنه جرى تطوير هذا المفهوم، أثناء النقاش، عبر ربطه باستكمال تطبيق اتفاق الطائف، وبالتالي توسيع دائرة شعاعه، لتغطي مجلس الشيوخ واللامركزية الإدارية وتطبيق المادة 95 من الدستور(تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية)، على قاعدة «الأواني المستطرقة» التي يُحتُمها ترابط الملفات وتداخلها.
وقد اختصر أحد المشاركين في جلسة الحوار أمس مسارها بالقول لـ «السفير» إنها كانت غزيرة في الأفكار، لكنها شحيحة في الإنتاج، فيما قال الوزير علي حسن خليل لـ «السفير» إنها فتحت نوافذ جديدة في الجدار. وقال مرجع حكومي سابق لـ «السفير» إن أهم ما في الجلسة إقرار الجميع بحتمية السلة المتكاملة.
ولعل إحدى أبرز الأفكار، تمثلت في طرح رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميل انتخاب مجلس النواب خارج القيد الطائفي، على أساس الدائرة الفردية.
اتكأ بري على هذا الطرح ليُطلق أرنبه من قفص «الطائف»، داعياً الى انتخاب مجلس النواب خارج القيد الطائفي، (كما تنص وثيقة الوفاق الوطني)، على أساس لبنان دائرة واحدة أو وفق المحافظات الخمس التاريخية، مع احترام مبدأ المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، ثم يسُتحدث مجلس للشيوخ يمثل الطوائف وفق نموذج مشابه لـ «القانون الأرثوذكسي»، وتناط به القضايا الأساسية التي تشكل حساسية لمكوّناته. وترافق كلام بري مع نقاش سريع حول صلاحيات مجلس الشيوخ ورئيسه، تقرر أن يُتابع في ما بعد.
بدا للوهلة الاولى، أن هناك ميلا لدى أغلبية الحاضرين نحو مناقشة هذا الاقتراح وإعطائه فرصة ضمن أفق أوسع يشمل قانون الانتخاب والرئاسة واللامركزية الإدارية والحكومة، وإن يكن الرئيس فؤاد السنيورة قد أعطى انطباعاً بأنه غير متحمس لـ «السلة المتكاملة» خشية أن تقود الى مؤتمر تأسيسي، مشدداً على أن «المفتاح المركزي» يبقى في إعطاء الأولوية لانتخاب رئيس الجمهورية. كما أن الجميل اعتبر أن التفاهم على سلة في ظل غياب رئيس الجمهورية غير ممكن من حيث المبدأ، لكن من دون أن يعطي جواباً حاسماً، على أن اللافت للانتباه تأكيد رئيس «الكتائب» أنه لا يمانع في عقد المؤتمر التأسسيسي لكن بعد انتخاب رئيس الجمهورية.
الى ذلك، أكد السنيورة أن المشروع المختلط القائم على قاعدة 60 نسبي و68 أكثري (مشروع «المستقبل» و «القوات» و «الاشتراكي») هو الحد الأقصى الذي يستطيع «تيار المستقبل» قبوله في ما خص النسبية، ملمحاً الى إمكان الموافقة على إحياء مشروع فؤاد بطرس الذي سبق أن أقرته حكومته، فالتقط بري هذا الموقف محاولا إحراج السنيورة عبر بعض الاستفسارات، وموضحاً أنه سيدعو اللجان المشتركة الى مناقشة المشروع، الأمر الذي أربك رئيس كتلة «المستقبل».
وقال بري أمام زواره أمس إن أهمية النقاش الذي جرى على طاولة الحوار تكمن في أنه يختزن نَفَساً إصلاحياً، مؤكداً أن الاتفاق حول انتخاب مجلس للنواب على أساس وطني وإنشاء مجلس للشيوخ، ضمن تسوية شاملة، يمكن أن يحصل إذا صفت النيات، والأمر ليس تعجيزياً. وأوضح أنه سيعد تصوّراً لعرضه أمام المتحاورين في الجلسة المقبلة، انطلاقاً مما تم بحثه في هذه الجلسة.
وأبلغ أحد أعضاء هيئة الحوار «السفير» أن من حسنات الخوض في السلة المتكاملة أنها تسمح بالانتقال من بند مقفل الى بند آخر سعياً الى إحداث خرق عبره، ما يوسّع إمكانية إجراء مقايضات وتبادل تنازلات، في حين أن حصر النقاش في قانون الانتخاب أو رئاسة الجمهورية يُضيّق هامش المناورة وفرص التسوية.
في المقابل، أكدت مصادر سياسية شاركت في جلسة البارحة لـ «السفير» أن الأزمة شائكة ومعقدة، وأطرافها لم تعط بعد إشارة واضحة الى أنه باتت لديها جهوزية أو قابلية في هذه اللحظة للانخراط في التسوية بكل ما ترتّبه من تضحيات.
أما الوزير غازي العريضي فأبلغ «السفير» أن على المتحاورين أن يدركوا أننا نواجه خطر خسارة الوقت والمصداقية والفرصة والناس، مؤكدا أن «الاشتراكي» مستعد للتجاوب مع أي سيناريو يسهل الخروج من المأزق. ونبّه الى خطورة أن نقترب من انتهاء ولاية المجلس الممد له من دون أن نكون قد اتفقنا على رئيس للجمهورية أو قانون للانتخاب، متسائلاً: «ماذا سيفعلون عندها، هل سيمددون للمجلس أم سيجرون الانتخابات على أساس قانون الستين، علما أن الخيارين يهددان بتداعيات وخيمة»؟

النفط «يعوم»

وإذا كانت البنود السياسية على طاولة الحوار، لا تزال مادة للانقسام العميق، فإن الاصطفاف حول الملف النفطي الذي تسرّب الى جدول الأعمال بدا أقل حدة.
وعُلم أن بري اجتمع قبل بدء جلسة الحوار مع الرئيس تمام سلام واتفق معه على ضرورة إقرار مرسومي النفط في مجلس الوزراء سريعاً، وإحالة قانون الضرائب من الحكومة الى مجلس النواب. ولاحقاً، أعيد تحريك الموضوع على طاولة الحوار، حيث شدد بري وسلام على أهمية استكمال عناصره وآلياته، وهو ما توافق عليه الحاضرون، فيما تقرر أن تتم دعوة اللجنة الوزارية المختصة الى الاجتماع قريبا، تمهيدا لإقرار المرسومين في مجلس الوزراء.
وقال أحد نواب «تكتل التغيير» لـ «السفير» إن بري عقد خلوة سريعة بعد انتهاء جلسة الحوار مع الوزير جبران باسيل بحضور الوزير علي حسن خليل، وأشار الى بروز أجواء إيجابية في ما يخص الملف النفطي، من دون أن يستبعد تبلغ جميع الأطراف المحلية «إشارات خارجية» بوجوب وضع الملف النفطي على السكة التي تجعل لبنان على خريطة الدول الغازيّة.