ما إن بدأ رئيس المحكمة العسكريّة العميد الرّكن الطيّار خليل ابراهيم بتلاوة أسماء المدّعى عليهم في الجناية رقم 76، حتى كادت مقاعد المحكمة أن تخلو من المتّهمين. أكثر من 30 مدّعى عليهم مع وكلاء الدّفاع عنهم تقدّموا باتجاه القوس. الكثير من الرتب والثياب المرقّطة تجمّعت أمام المنصّة، مع قلّة من مرتدي الألبسة المدنيّة أو حتّى ممّن نودي عليهم ليتبيّن أنّهم فارين من وجه العدالة.
وبرغم مضيّ أكثر من 3 سنوات على كشف «شبكة تهريب المازوت» وتوقيف المدّعى عليهم قبل إخلاء سبيلهم والتحّقيق معهم في مديريّة المخابرات ثمّ لدى القضاء العسكريّ، إلّا أنّ الحكم بحقّ هؤلاء لم يصدر حتى اليوم لأسباب كثيرة كتغيّب متهمين أو محاميهم، تماماً كمصير الجلسة التي عقدت أمس في «العسكريّة»، وسرعان ما أرجئت إلى 4 تشرين الثاني المقبل.
ويبدو هذا الملفّ المتّهم به 4 ضبّاط وأكثر من 20 عسكريّاً بين رقيب أوّل ورقيب وجنديّ ومجنّد، واحدا من أكبر الملفّات الواردة إلى المحكمة العسكريّة، نظراً لعدد المدّعى عليهم من المؤسّسة العسكريّة، بالإضافة إلى الجرم: التماس رشوى بتواريخ مختلفة للقيام بأعمال تنافي واجبات مهنتهم بأخذ مبالغ من مهرّبي المازوت والدّخان من سوريا إلى لبنان، وقيام الضبّاط حتى برشوى العسكريّين للسكّوت عمّا يجري.
حصل ذلك قبل منتصف العام 2013. حينها، كان للجيش حاجز ثابت عند منطقة اللّبوة و3 نقاط مراقبة لمنع عمليّات التهريب من سوريا إلى لبنان، أو العكس.
ومع ذلك، كانت الصّهاريج المحمّلة بالمازوت والشّاحنات التي تحتوي دخّاناً مهرّباً، تمرّ بكثافة، حتى بلغ الأمر في آذار من الـ2013 أن مرّ 25 صهريجاً خلال ليلة واحدة.
لم يسلك المهرّبون طريقاً فرعيّة لعدم القبض عليهم، وإنّما قطعوا نقاط المراقبة ومرّوا على الحاجز مع «يعطيك العافية وطن». حينها، ورد الأمر من الملازم إلى أحد العسكريّين بضرورة أن تفتح الطريق المقفلة أمام الصّهاريج ومن دون تفتيش. ارتبك العسكريّ، اتّصل عبر جهازه الرباعي بآمر السريّة الذي أعاد طلب الملازم مع أمرٍ بعدم الاتّصال به على الهاتف خوفاً من الرقابة!
كانت العمليّة مدبّرة من ألفها إلى يائها. وأنهى المهرّب علي ر. مفاوضاته مع آمر السريّة وأوصل إليه مبلغ الـ2000 دولار إلى المكتب ما إن انطلق سائقو الصهاريج من سوريا.
وهنا تختلف الرواية بين الضبّاط الثلاثة الذين تقاسموا المبلغ: 1000 دولار لآمر السريّة «لأنني بنجمتين» و1000 دولار موزّعة على الضابطين بالتساوي «لأنكما بنجمة واحدة»! إذ يتقاذف الضبّاط الثلاثة المسؤوليّات في ما بينهم، آمر السريّة يؤكّد أنّ الإعلان عن نيّته في قبض الرشى مقابل تسهيل مرور الصهاريج أمام الضابطين كان بهدف امتحانهما. أمّا تلقيه مبلغ الـ2000 دولار كان ديناً من المهرّب وليس رشوى، وفق قوله!
فيما يشير مساعد آمر السريّة إلى أنّه كان له دور أساسي في كشف «شبكة التهريب» بعد أن سمع من «الضابط ذي النجمتين» عن عمليّات تهريب تحصل على الحدود، وأن الكثير من العسكريّين يستفيدون منها ويذهبون إلى بيوتهم بجيوب مليئة بالدولارات. وعلى الفور، أفاد الضّابط مخابرات الجيش التي طلبت منه توثيق العمليّة.
ولذلك، عمد إلى تسجيل الاجتماع الذي حصل بين الضبّاط الثلاثة في آذار 2013، حينما قال لهما: «المياه تجري من تحت أقدامنا والكلّ يستفيد إلّا نحن»، مشيراً إلى أنّه ينوي التضييق على المهربين ليتفاوضوا معه مباشرةً ويحصر عمليّات التهريب به وتوزيع «المغانم» على من يراه مناسباً كي يؤكّد للمهربين «من هو الآمر والنّاهي هنا».
حينها، بدأت المفاوضات التي بدأت بـ300 دولار على كلّ صهريج، ليعرض المهرّب علي ر. 400 دولار في الليلة بغض النّظر عن عدد الصهاريج العابرة على الحاجز، وينتهي الأمر بـ2000 دولار على الليلة الواحدة.
في حين لم يستطع آمر السريّة الوصول إلى تسوية مع مهرّبي الدّخان بعد أن رفضوا إعطاءه 700 دولار مقابل كلّ شاحنة، طالباً من أحد الضبّاط تأمين النوبة على نقطة المراقبة للتضيق عليهم وجعلهم يرضخون للمقايضة.
هذا ما استطاع مساعد آمر السريّة تأكيده خلال التحقيق معه لدى قاضي التّحقيق العسكريّ الذي طلب منع محاكمته قبل أن تفسخ الغرفة السّادسة في محكمة التمييز منذ عام قراره، وتطلب محاكمته، بعد مراجعة عدد من الضّباط في المخابرات الذين أشاروا إلى أنّ الذي بلّغ عن عمليّة تهريب 25 صهريجاً كان أحد العسكريّين على الحاجز وليس الضابط الذي سئل عن الموضوع، ونفى قبل أن يعترف بالأمر!
التّهريب..
«على عينك يا تاجر»
أمّا الضابط الثالث الذي أوكلت إليه المهمّة التنفيذيّة بالنزول على الأرض ومتابعة الموضوع عن كثب، فهو أكّد حصول عمليّات تهريب 25 صهريجاً مقابل تقاضيه شخصياً 500 دولار بالإضافة إلى مبلغ 250 دولارا أرسلها آمر السريّة لعسكريي الحاجز. هؤلاء لم يأخذوا إلا «فتات الرشوى»، وتقاسم سبعة منهم مبلغ 250 دولارا.
واعترف أيضاً أنّ آمر السريّة أمره بتغطية النوبات كافة على الحاجز للتضييق على المهربين قبل التفاوض معهم.
وأبرز ما قاله الضّابط هو أنّه كان ينوي إخبار القيادة بهذا الموضوع وأبقى الـ500 دولار معه كدليل، لأنّه لا يثق برؤسائه في اللواء، إذ إنّ أنابيب تهريب المازوت كانت «على عينك يا تاجر»!
يروي الضابط أنّ هذه الأنابيب كانت موجودة في نقطة أعلى من الحاجز، وكان الصهريج يضخّ المازوت إلى ما بعد نقطة الحاجز وعلى مرأى من الجميع. كما أنّ هناك أنبوبا آخر يفرّغ المازوت إلى محطّة بنزين مقابل الحاجز مباشرةً!
ما منع الضابط من إخبار قيادته بما يحصل، وفق ما قال، هو تلقّيه اتّصالا من أمانة الأركان تطلب منه الحضور حالاً. وحينما أبلغ آمر السريّة بهذا الاتصال، طلب منه عدم البوح بأي شيء «لأنّ لا دليل ثابت علينا».
وإذا كانت أمانة الأركان قد سارعت إلى فتح تحقيق بالأمر وحوّلت المتّهمين إلى القضاء العسكريّ، إلا أنّ الأمر لم ينتهِ هنا، بل تدحرجت «كرة الثلج» وما لبث أن فضح المستور بالكشف عن الكثير من عمليّات التهريب المماثلة، ووصولاً إلى.. التّحقيق مع آمر السريّة السابق.
كلّ إفادات المتهمين آنذاك تحدّثت عن الثروة التي جمّعها الأخير حينما كان مسؤولاً على الحاجز والتي وصلت إلى أكثر من 200 ألف دولار مقابل عمليّات التهريب، وفق ما قال أحدهم.
ولم يكتف الضابط بهذا المبلغ، بل كان يأتي إلى الحاجز حتى بعد تشكيله إلى مركزٍ آخر بهدف تسهيل عمليّات التهريب، إلى حدّ أنّه كان يطلب من العسكريين الصعود إلى الشاحنة كي يؤمّن عدم تفتيشها عند الحواجز، وهو يقول للعسكريّ: «المهرّب بشوف خاطرك».
هذه الاتهامات التي تكرّرت على لسان أكثر من مدّعى عليه نفاها آمر السريّة السابق، لافتاً الانتباه إلى أنّهم يريدون توريطه والانتقام منه لأنّه كان ينفّذ التعليمات بحذافيرها.
وتبيّن أيضاً خلال التحقيقات أنّ عدداً من العسكريّين متورّطون بالتفاوض المباشر مع المهرّبين بعد تشكيل آمر السريّة السابق، وتقاضيهم الرشى مقابل تسهيل مرور الصهاريج.
وخلال استجواب اثنين من المهربين، نفيا علاقتهما ومعرفتهما بالضباط قبل أن يتخلّفوا عن حضور الجلسات وتصدر بحقهما مع آخرين مذكّرات توقيف غيابيّة.
لينا فخر الدين