لم تعد هيئة الحوار الوطني مجرد تعبير عن «وضع شاذ» ولا عن أزمة وطنية مفتوحة يعيشها لبنان منذ لحظة صدور القرار 1559 ومن ثم اغتيال الرئيس رفيق الحريري ولا عن تمسك الطبقة السياسية بنظام سياسي يحمي مصالحها، بل صارت بديلا عن كل «المفقودين» في هذه الجمهورية.
هي البديل عن رئيس للجمهورية لن ينتخب إلا في إطار سلة متكاملة يقع بند قانون الانتخاب في أوائل بنودها. هي البديل عن مجلس نواب لن تفتح أبوابه قبل انتخاب رئيس للجمهورية. هي البديل عن حكومة هجينة صار معظم «وزراء الصدفة» فيها أكثر تمسكا بها من القوى السياسية التي أتت بهم إلى هذه «الجنة»!
بهذا المعنى، يصح القول في هيئة الحوار أنها صارت أشبه بمجلس حكم انتقالي، مهمته مناقشة جدول أعمال الضرورة بما يتضمنه من قضايا سياسية «دائمة» مثل الرئاسة وقانون الانتخاب وقضايا تقع في صلب جدول أعمال السلطة التنفيذية، مثل آلية عمل الحكومة والنفط والنفايات والتعيينات، ولا بأس في أن تصدر «فتاوى» في قضايا من صلب صلاحيات رئاسة الجمهورية، كالموقف من تصنيف «حزب الله» أو من أي أمر يتصل بالمعاهدات الدولية!
لكن هيئة الحوار القيادية للدولة وللتواصل بين «اهلها»، لا تملك ترف الوقت دائما. فقد ولدت قبل عشر سنوات، في لحظة سياسية استثنائية، وكانت وظيفتها تقطيع الوقت في انتظار موعد انتهاء ولاية الرئيس اميل لحود الذي صمد في القصر حتى آخر لحظة من ولايته الممددة برغم الحرم السياسي الذي رفعته بوجهه «قوى 14 آذار». ولولا «اتفاق الدوحة» وما حمل في طياته من تكريس لتوازنات ما بعد أيار 2008 من ثلث معطّل ولثلاثية الجيش والشعب والمقاومة وانتخاب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، لكان الحوار مهددا، خصوصا أن جدول أعماله الأساس (الرئاسة والمحكمة والسلاح الفلسطيني والعلاقات مع سوريا الخ..) قد أصبح منسيا.
ومع ميشال سليمان، تكرست أيضا لعبة الوقت الضائع، لولا أنه جرّب أن «يخطف» من هيئة الحوار «اعلان بعبدا» الشهير الذي سجل كوثيقة رسمية في الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، ولم يعد أحد يسمع به منذ ليل الرابع والعشرين من أيار 2014، تاريخ انتهاء الولاية السليمانية.. والعودة الى عمشيت.
وكعادته، تسلل الرئيس نبيه بري من خرم الفراغ المتجدد والأزمة المفتوحة، ليجد في هيئة الحوار ضالته وضالة الجميع. أعيد احياء «الطاولة»، ولم يتجرأ أطرافها على مقاطعتها الا سمير جعجع. وها هي تمر سنة تلو سنة، والحوار يستمر وجدول الأعمال يتراقص ويتكاثر، ولا أحد يجرؤ على مغادرة القاعة. صار لكل يعقوب «غايته». صيغة ورئاسة وحكومة ومجلسا وحصصا في السلطة وتوازنات في هذه الدائرة أو تلك.
لكن الوقت ليس مفتوحا، وها هي المواعيد تتزاحم، فمن أين تبدأ «الحكاية الحقيقية»؟
لقد فشل مجلس النواب في التوافق على قانون انتخابي جديد. عادت الكرة الى ملعب هيئة الحوار. كل «البوانتاجات» أظهرت تراجع حظوظ معظم المشاريع الانتخابية. قال روبير غانم لأعضاء اللجان المشتركة «لماذا تهدرون وقتكم، القرار هناك (في هيئة الحوار)». حظيت كل المشاريع بـ «فيتوات» ولم يبق إلا مشروعان:
• أولا، مشروع حكومة نجيب ميقاتي القائم على النسبية على اساس لبنان 13 دائرة انتخابية (محافظات موسعة)، وهو يحظى بشبه توافق سياسي باستثناء «المستقبل» الرافض و «القوات» الحريصة على عدم استفزاز حليفها الأزرق، وعلى الأرجح، لا أحد يقيم حسابا لـ «الكتائب»، لا من حلفائها ولا من خصومها، طالما أنه في قيادة الحزب نفسه، هناك من لا يقيمون وزنا لقرارات قيادتهم!
• ثانيا، مشروع القانون المختلط الذي قدمه رئيس المجلس، والقائم على أساس انتخاب 64 نائبا وفق النظام الأكثري وعلى أساس تقسيمات الأقضية الحالية، أي «قانون الستين»، وانتخاب 64 نائبا وفق النظام النسبي وعلى أساس تقسيمات المحافظات الكبرى.
ومن يرصد المناخات الدولية والاقليمية، يلاحظ أن ما يسري على الانتخابات البلدية سيسري على النيابية. لن يكون هناك تساهل مع أية محاولة لتمديد ولاية المجلس النيابي مرة جديدة ولو لمدة يوم واحد بعد السابع عشر من أيار 2017. الأخطر من ذلك، أن كل المؤسسات تملك تقديرات مشتركة بأن التمديد قد يطلق حراكا شعبيا في كل لبنان وخصوصا في العاصمة أوسع بكثير من الذي شهده بعنوان «طلعت ريحتكم» (النفايات) في صيف العام 2015.
لا بد من الانتخابات النيابية، لكن معظم القوى السياسية المسيحية لن تكون صاحبة مصلحة في أن تجري على قاعدة «قانون الستين». هكذا انتخابات ستكرس وتشرع الواقع المشكو منه منذ العام 2005 حتى الآن، ولاربع سنوات جديدة. ولذلك، صارح بري الحضور في هيئة الحوار من أن انتخابات على اساس الستين ستؤدي الى ثورة شعبية كبيرة لا يمكن تقدير تداعياتها.
ماذا اذا استمر رفض «المستقبل» وما هو البديل؟
من الواضح أن هيئة الحوار ستجد نفسها أمام خريطة طريق إلزامية من الآن وحتى مطلع ربيع العام 2017، تتضمن جدول الأعمال الآتي:
أولا، التوافق سياسيا في هيئة الحوار على صيغة القانون الانتخابي (يعطي بري أفضلية لمشروع حكومة ميقاتي ثم لمشروعه المختلط).
ثانيا، انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
ثالثا، التئام مجلس النواب في جلسة تتضمن بندا وحيدا، وهو إقرار قانون الانتخابات المتوافق عليه.
رابعا، إجراء الانتخابات النيابية وفق القانون الجديد.
خامسا، انتخاب هيئة مكتب المجلس بما في ذلك رئيس المجلس الجديد ونائبه.
سادسا، تعيين رئيس جديد للحكومة من ضمن تفاهم يشمل الحصص والتوازنات («الثلث المعطل» أو أي صيغة ضامنة) والبيان الوزاري (الثلاثية).
سابعا، استكمال تنفيذ اتفاق الطائف، وهذا البند يحمل في طياته سلسلة بنود اصلاحية ستكون جزءا أساسيا من «السلة المتكاملة»(خريطة الطريق)، ويقع في أولويتها اصدار نظام داخلي لمجلس الوزراء بقانون يصدر عن مجلس النواب (خصوصا اعادة الاعتبار الى مؤسسة مجلس الوزراء ومقرها المنفصل عن مقر رئاسة الحكومة)، المداورة في وظائف الفئة الأولى، اعتماد روحية اتفاق الطائف في توزيع الحقائب السيادية (وفق المناقشات الميثاقية وليس النصوص الدستورية)، اقرار اللامركزية الادارية، انشاء مجلس الشيوخ، تشكيل الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية، اقرار خطة تنموية شاملة الخ..
من الواضح أن سعد الحريري هو أكثر طرف محرج حاليا بالحوار وقانون الانتخاب ورئاسة الجمهورية ربطا باستعجاله العودة الى رئاسة الحكومة، الأمر الذي يجعله عرضة لابتزاز سياسي مكشوف من داخل تياره ومن حلفائه المسيحيين وأيضا من خصومه في «8 آذار».
عندما كان الحريري يسعى للانفتاح على ميشال عون قبل أكثر من سنتين من زاوية رهانه على التوافق المستحيل بين المسيحيين، طلب من «الجنرال» أن يسوّق نفسه عند مسيحيي «14 آذار»، وقتذاك، انبرى سمير جعجع غاضبا ومهددا بالويل والثبور، وقال للحريري ان كل ما بنته «قوى 14 آذار» يتم التفريط به بين ليلة وضحاها، مطالبا اياه بقطع الحوار سريعا مع «الجنرال».
وبالفعل، ساهمت عوامل عدة بقطع ذلك الحوار، لكن الأبرز بينها محليا هو دور سمير جعجع السلبي، فما كان من الحريري الا أن تصدر من تبنوا ترشيح جعجع لرئاسة الجمهورية، ونزل الى مجلس النواب وصوّت على هذا الأساس، «لكن جعجع كان ناكرا للجميل، فأقدم لاحقا على تبني ترشيح عون وطعنني في الظهر»!
هذا الكلام ردده ويردده الحريري منذ أن بلغه احتجاج جعجع على تبنيه ترشيح سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية.
يعني ذلك أنه في ظل تعذر خيار فرنجية، ستبقى المعادلة محصورة بخيار من بين اثنين: اما ميشال عون أو الفراغ؟
ربما بات الجميع ينتظر بلوغ حافة الفراغ الوطني الشامل في ربيع العام 2017. فلا شيء يشي حتى الآن بتفاهم رئاسي، واذا جرت الانتخابات النيابية قبل الرئاسية، لا أحد يملك سيناريوهات واضحة لليوم التالي، واذا تم التمديد للمجلس الحالي، لا أحد يملك تصورا لدينامية الشارع اللبناني، واذا جرت الانتخابات على اساس «الستين» لن يتغير حرف من حروف الأزمة السياسية، حتى لو ظل الشارع ساكنا.
المعادلة صارت محصورة بين سلة متكاملة على «البارد» أو انهيار سياسي يمهد للسلة المتكاملة «على الحامي».
لننتظر، ولتنتظر معنا هيئة الحوار.