يصعب توقّع مستقبل البلاد العربية، في ظلّ ارتفاع نسبة اللاجئين في عدد من الدول التي تعاني من الحروب.
نسأل: هل ينجو الأطفال الذين يُنتظر منهم أن يكونوا المستقبل؟ الجواب صعب إذا ما استرجعنا بعض الصور، كأطفالٍ زحفوا من منطقة إلى أخرى علّهم ينجون من الرصاص، وقد مات أصدقاء لهم أمام أعينهم واضطروا إلى متابعة الزحف.
أم أطفال رأوا أمهاتهم يُقتلن وشاركوا في دفنهن. أم أطفال يكرهون الأصوات والصمت والحياة والموت.
لم يكن عليهم أن يجرّبوا كلّ هذا. كان يكفيهم اللعب ببندقية بلاستيكية، والنوم في فراش دافئ ليلاً. المنظّمات الأمميّة والدوليّة تنشرُ أرقاماً يوماً بعد يوم، تُلخّص حياة جيل المستقبل. لا تستعين بعلوم الفلك بل تعدّ هؤلاء الأطفال وتضعهم في خانات، وتقدّم لنا صوراً سوداوية.
كيف يكون المستقبل؟ يصعب تخيّله، وإن كان البعض أكثر تفاؤلاً.
تقول المعالجة النفسية رندا حدّاد، التي تعمل مع اللاجئين في مخيم برج البراجنة في بيروت: "دورنا أن نعطيهم الأمل على الرغم من صعوبة العيش".
في سورية، كانت لدى الأطفال مساحات كبيرة للعب، ليقيّدوا اليوم في مساحات ضيّقة في المخيّمات.
ببساطة، وجدوا أنفسهم في بيئة مختلفة تماماً. تسعى حداد إلى جعل اللاجئين يتأقلمون مع واقعهم الجديد على الرغم من حدته. مثلاً، تقول لأم خسرت طفلاً إن لديها أطفالاً آخرين، وعليها التماسك لأجلهم. ليس الأمر بهذه البساطة طبعاً، كما أنه يستغرق وقتاً. لكن هذا عملها، مشيرة إلى أنها تلاحظ فرقاً مع كثيرين قصدوها للعلاج.
القصّة إذاً هي في النظر إلى النصف الملآن من الكوب، بل الإيمان به. تشير حداد إلى أن "معاناة الأطفال اللاجئين كبيرة. بعضهم يشرد ويسترجع مشاهد من الحرب، فيما يعاني آخرون من التبول اللاإرادي، عدا عن الخوف".
تلفت إلى أن "بعض الصغار يخافون من الذهاب إلى المدرسة، خشية أن يفقدوا أمهاتهم خلال هذه الساعات التي يفترقون فيها عنهن.
آخرون يصيرون أكثر عنفاً مع نظرائهم وحتى أهلهم، أو يعانون من الكآبة، أو يخافون العتمة وأصوات الطائرات المدنية". وتتطرق إلى تقرير أعدّه صندوق الأمم المتحدة للسكان، وأظهر أن 89 في المائة من الشباب النازحين يشعرون بالقلق والكآبة، و50 في المائة منهم قالوا إنهم لم يشعروا أبداً بالأمان خلال وجودهم في لبنان.
نسبة اللاجئين الذين حالفهم الحظ بالحصول على الدعم النفسي والاجتماعي قليلة. أما أولئك الذين لم يحصلوا على إحاطة نفسية، قد يعانون من مشاكل في الصحة النفسية، وإن كان البعض أكثر قدرة على التأقلم مع الظروف، بحسب حداد. وتلفت إلى أن "أولئك العاجزين عن التأقلم، قد يلجأون إلى المخدرات أوالدعارة أو الانتحار".
لا ترى أن هناك فئة أكثر تأثّراً من أخرى. على سبيل المثال، تتضايق الأمهات لعدم قدرتهن على إرسال أطفالهن إلى المدارس، فيما يعجز الأطفال عن التعبير عن عدم تأقلمهم. لكن تبقى هناك إيجابيات.
تشير إلى أن بعض النساء السوريّات اللواتي لم يكنّ يخرجن من منازلهن في سورية إلا بمرافقة "حمواتهن"، صرن يذهبن إلى السوق وحدهن.
لا تتحدث حداد عن مستقبل وردي أو قاتم. صحيح أن التحذيرات من جيل يعاني الأمية كثيرة، لكن هناك دورات محو أمية. "والمهم هو عدم الاستسلام".
تختلف الصورة بعض الشيء بالنسبة للمعالجة النفسية رجاء مكي.
تقول: "لا شك أن هناك جهداً بنّاءً من قبل جمعيات المجتمع المدني في ما يتعلق بالعمل مع اللاجئين، وإن كان ليس منظماً أحياناً ما يؤدي إلى تضارب في المصالح. هنا، لا بد أن يكون هناك تنظيم من قبل الدولة".
من جهةٍ أخرى، تلفت إلى تأثير القرار السياسي، خصوصاً بعدما انقلبت الأدوار، مشيرة إلى أنه لهذه اللعبة الاجتماعية، كما تصفها، أبعادها النفسية "اليوم، يصعب على السوريّين رؤية أنفسهم مكسورين في المجتمع اللبناني، فيما يشعر لبنانيون أنه حان وقت رد الحساب".
تضيف مكي أن غياب التنظيم ينعكس على السلوك النفسي للأشخاص، مشيرة إلى "ضرورة التنظيم وتأمين برامج نفسية للمساهمة في علاج التهجير بشكل أساسي، وعلاج التناقضات بين الوافدين والمقيمين، خصوصاً أن اللبنانيين يشعرون أيضاً بأنهم مهجّرون في بلدهم". تشير إلى أن الظاهر يشي بأن العمل مع اللاجئين يقدر بنحو 70 في المائة. لكن برأيها، لا يتجاوز الأمر الثلاثين في المائة.
صورة المستقبل بحسب مكي تبدو قاتمة "في حال لم تكثّف الجهود، سنكون أمام مزيد من الأزمات والشعور بالاضطهاد ونوبات عصبية تتراوح ما بين الاضطرابات السلوكية ذات الحدين والذهانية".
تضيف: "تكمن المشكلة في غياب الحماية الفعلية داخل الأسرة والمجتمع الكبير. كذلك، تبدو الأم عاجزة عن حب أطفالها في ظل هذه الظروف الصعبة، فيما يعجز الأب عن حمايتهم.
يضاف إلى ذلك التهجير من الأرض، وهي أم أيضاً". ترى أن المجتمع اللبناني يعاني من الكثير من الأزمات النفسية في الوقت الحالي "ما يعني أنه سيكون هناك اضطراب في البيئة الأساسية والبيئة الوافدة". تتابع: "لا نعرف ماذا ينتظر هذا الجيل. ربما يتحول إلى جيل عنفي، رداً على كل ما تعرّض له من عنف".
بالنسبة للمساعدة الاجتماعية في مؤسّسة الحريري ربى كرومبي، الصورة ليست أفضل بكثير. تقول إن عدداً كبيراً من اللاجئين خارج المدرسة، عدا عن الأمراض وغياب الأمان والمعاناة النفسية. تلفت إلى أن مخيم عرسال، حيث تعمل، يضم حالياً نحو 120 ألف لاجئ. تتابع: "لنفترض أن المركز يساعد حالياً مائة طفل، فماذا عن البقية".
من جهة أخرى، تشير إلى أنه "ليس هناك اهتمام بالتعليم من قبل الأهل، علماً أن معظم اللاجئين هنا كانوا يعملون في مجال الزراعة. أكثر من ذلك، ليس هناك تفكير في المستقبل، ولا ينوي كثيرون العودة إلى بلادهم في حال انتهت الحرب.
لا يشعرون بالأمان ويخشون الاعتقال". كذلك، تلاحظ أن هناك استسلاماً للواقع وعدم رغبة في التغيير أو عمل أي شيء. ترى أننا "قادمون على جيل أمّي"، قبل أن تضيف: "من فتح مدرسة أقفل سجناً".
بعد عشر سنوات من الآن، ماذا سيكون حال اللاجئين الأطفال؟ ربّما يكبرون من دون أحلام، ولا يبقى لديهم غير ذاكرة حرب وخوف وجوع وموت، إلا إذا وجدوا ذلك الحضن الكبير، الذي يشحّ شيئاً فشيئاً.
(العربي الجديد)