ما زالت توابع التدخل الروسي في سوريا تتوالى وتثير دهشة البعض، مع وضوح واتساع خطوط الافتراق التي تفصل موسكو عن طهران في الملف السوري. ومن بعد أوصاف «أبو علي بوتين» و «عاصفة السوخوي» الترحيبية بروسيا ودورها الجديد في المشرق العربي، أخذت بمرور الوقت أبعاد أخرى من الصورة في الظهور، ما سبب امتعاضاً معلناً من روسيا وأدوارها في تحليلات «محور الممانعة». لم يكن إهداء روسيا لنتنياهو دبابة إسرائيلية غنمها الجيش السوري من دولة الاحتلال الإسرائيلي أثناء اجتياح لبنان سوى رسالة مدوّيّة بأنّ تدخل روسيا في المشرق العربي لم يكن لمصلحة طرف من أطراف الصراع الإقليمي، وإنما لحسابات روسية براغماتية غير مقيّدة بالأيديولوجيا. ثم جاء الإعلان عن مناورات مشتركة روسية - إسرائيلية في البحر الأبيض المتوسط، ليقصم ظهر أوهام رائجة ارتكنت إلى استقطاب ثنائي متخيل، قوامه روسيا وإيران وتحالفاتها الإقليمية والنظام السوري؛ في مواجهة أميركا والسعودية وتركيا وفصائل المعارضة المسلحة. تبدو المسألة أعقد كثيراً من ذلك التبسيط الأيديولوجي المُخلّ.
روسيا في المشرق العربي: توصيف حالة
تتجاوز القدرة الشاملة لروسيا بأشواط قدرة أي من القوى الإقليمية في الشرق الأوسط، على الأقل بحكم التراتبية في النظام الدولي الراهن. ويترتب على ذلك أن القوى الكبرى أقدر منطقياً وعملياً على التأثير في خيارات القوة الإقليمية، وأن التدخل الروسي في سوريا جاء بالأساس وفقاً لخطة روسية في العودة المحسوبة إلى المنطقة ضمن إطار توازنات النظام الدولي، التي تشهد تراجعاً أميركياً نسبياً. ومنذ التدخل الروسي في سوريا على الأقل، لم تعد الصراعات المحلية في ساحات الصراعات بالمنطقة حكراً على القوى الإقليمية، حيث ترسّخ البعد الدولي للصراعات المحلية بصورة أكثر كثافة، وهي نتيجة سياسية عميقة فاضت على حدود الجغرافيا السورية والصراعات فيها وعليها.
ومنذ الأسبوع الأول للوجود العسكري الروسي في سوريا، أظهرت المؤشرات نية روسية على «بقاء طويل وليس عابراً لأن حجم ونوعية العتاد الروسي في اللاذقية وقابليته للتوسع كيفياً ونوعياً تتجاوز بكثير مهمة محاربة الإرهاب المعلنة» (مصطفى اللباد - السفير: روسيا تقلب الموازين في سوريا والمنطقة 21/9/2015). على ذلك كان التنسيق مع طهران برياً ومع تل أبيب جوياً أمراً مهماً لنجاح القوات الروسية في مهامها منذ اليوم الأول للتدخل. والسبب معلوم: كل من طهران وتل أبيب يتحكم إلى حد كبير في تشكيل أجندة الأمن الإقليمي، وبالتالي تطلب إنجاح التدخل الروسي في مرحلته الأولى تنسيقاً وتعاوناً مع هاتين القوتين. في المرحلة اللاحقة حاولت موسكو تنسيق جهود الحل الديبلوماسي للأزمة السورية مع علمها بصعوبة التوصل إليها، لإظهار إمساكها بالورقة السورية ولفتح أبواب المقايضة مع واشنطن على ملفات أخرى مثل أوكرانيا والعقوبات الغربية المفروضة على روسيا. على العموم، لا يبدو الآن وجود روسيا في المشرق العربي عابراً أو مؤقتاً أو حتى مرتبطاً بالأزمة السورية حصرياً، لأن التحصن والتمكن من اللاذقية وطرطوس على الساحل السوري يؤمن لروسيا إطلالة ممتازة على شرق البحر الأبيض المتوسط، وموقعاً لا يبارى في التأثير على موازين القوى بالمشرق العربي والمنطقة، بقطع النظر عن تحقق أو فشل المقايضة المحتملة في ملفات أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية.
روسيا كلاعب إقليمي في الشرق الأوسط
تعي موسكو أن طهران التي أبرمت الاتفاق النووي مع الغرب ولم تجن ثماره الكاملة حتى الآن، ليست في وارد مواجهة موسكو في ظل توتر علاقات طهران وواشنطن، وبالتالي ستستطيع موسكو - على الأرجح - تمرير تصوراتها لسوريا والمشرق العربي بشكل أسهل نسبياً. أما تركيا، المنافس التاريخي لإيران في المشرق العربي، فقد حيّدت نفسها عن الساحة السورية منذ إسقاط الطائرة الروسية، وتُعدّ ـ حتى الآن ـ الخاسر الإقليمي الأكبر من التدخل الروسي في سوريا. في المقابل، قلص التدخل الروسي من هامش مناورة السعودية في الحرب السورية، لكن نظراً إلى المحدودية النسبية لطموحات السعودية في سوريا وحصرها بتنحية بشار الأسد ـ على العكس من تركيا ذات الأهداف المركبة في سوريا ـ يمكن نظرياً فتح قنوات تفاوض روسية - سعودية حول سوريا في مرحلة لاحقة. ولأن دولة الاحتلال الإسرائيلي تقرأ التوازنات بدقة، فقد ارتأت أن التعاون مع موسكو سيؤمن لها قدراً معقولاً من التأثير بمجريات الأمور، بشكل يتجاوز بكثير البقاء على الحياد أو معارضة التدخل الروسي من البداية، كما فعلت تركيا والسعودية.
ويدعم التقارب الروسي ـ الإسرائيلي أن نسبة خمس سكان إسرائيل تتحدر من أصول سوفياتية سابقة، ما يشكل رافعة معقولة لتنمية العلاقات بينهما. كما أن احتفاظ موسكو بعلاقات جيدة مع كل من طهران وتل أبيب يؤمن لها فرصة إطلاق مبادرات تسوية لقضايا المنطقة المختلفة بتكلفة زهيدة نسبياً، الأمر الذي يضمن مكاناً لروسيا على طاولات التفاوض المقبل لقضايا المنطقة. ومن المنطقي والمفهوم أن تحاول موسكو إعادة تقييم علاقاتها مع القوى الإقليمية في المنطقة لتعظيم الفوائد من تدخلها العسكري، فالأبواب الخلفية للتفاوض مع تركيا ليست موصدة تماماً، وهناك مصلحة مشتركة روسية - تركية في تحسين العلاقات المقطوعة. تريد تركيا هامش مناورة أوسع بدلاً من وضعها الراهن، أما موسكو فلا تريد حصر خياراتها في المنطقة بطرف إقليمي واحد، لأنها أصبحت ـ ببساطة - منذ دخولها العسكري في سوريا، لاعباً إقليمياً كبيراً في الشرق الأوسط.
روسيا وحسابات الطاقة
يربط بين القوى الأربع إيران وتركيا والسعودية وإسرائيل، على اختلاف سياساتها وتصادم شعاراتها وتنافر أيديولوجياتها، خيط مشترك فائق الأهمية لروسيا أي موارد الطاقة، التي تشكل عصب الاقتصاد الروسي وتمثل أداة موسكو الممتازة للتأثير في سياسات جوارها «الأوراسي». إيران (ثاني أكبر احتياطي في العالم) منافس كبير لروسيا (أكبر احتياطي في العالم) في سوق الغاز الطبيعي الدولي، ومن شأن وصول الغاز الطبيعي الإيراني إلى أوروبا أن يُعطب أداة روسيا للتأثير في الخيارات الأوروبية. أما تركيا فهي ممر محتمل للأنابيب الروسية إلى البحر المتوسط والغرب، وبالتالي تشكل الجغرافيا التركية فرصة نظرية لروسيا بهذا المضمار. أيضاً السعودية خصم أساسي لروسيا في سوق النفط الدولية، حيث تحكمت في أسعار الخام بشكل أضر بالميزانية والمصالح الروسية، وبالتالي فالتوافق نسبياً مع الرياض يبدو ضرورة تكتيكية روسية على الأقل لتحجيم الخسائر. ولا تفوت ملاحظة أن إسرائيل تستعد لإعلان نفسها قوة غازية كبيرة، بعد اتفاقاتها مع قبرص واليونان واستيلائها على حقول الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط، ما يمثل أهمية استثنائية لموسكو. ولعل الإعلان عن المناورة البحرية الروسية - الإسرائيلية تأتي في هذا السياق تحديداً، فالغرض الروسي من المناورات البحرية سيكون الإعلان عن نفوذها الغازي الجديد في المنطقة ورسم حدوده، وليس بالضرورة الاصطفاف مع تل أبيب في مواجهة آخرين. على العموم، من شأن مشاركة روسيا في ملكية حقول الغاز المتوسطية عبر شركاتها الكبرى للغاز، سواء على الجانب الإسرائيلي أو على الجانب السوري (وربما الجانب اللبناني لاحقاً)، أن يعزز مكانة روسيا الدولية عموماً وفي سوق الغاز الطبيعي خصوصاً.
الخلاصة
أثبت تطور الأحداث على الأرض السورية منذ التدخل الروسي خريف العام الماضي أن أهداف موسكو وطهران في سوريا تطابقت في المرحلة الأولى من التدخل لتعديل ميزان القوى نسبياً لمصلحة النظام السوري، إلا أن تلك الأهداف غير متطابقة بالضرورة في المرحلة المقبلة تكتيكياً واستراتيجياً. ولا يعني ذلك بأي حال انتهاء التفاهمات الروسية - الإيرانية، بل استمرارها وفقاً لتراتبية القوة في النظام العالمي الراهن مع بقاء التناقضات في المصالح بينهما. في المقابل، تصادمت أهداف موسكو من ناحية والرياض وأنقره من ناحية أخرى خلال الفترة الماضية، لأن تعديل ميزان القوى في سوريا خلال المرحلة الأولى للتدخل لم يكن مؤاتياً لأي منهما. ومع ذلك، لا يمكن استبعاد تحسن في علاقات روسيا معهما خلال المرحلة المقبلة وفقاً لضوابط وشروط معينة ولمصلحة الطرفين.
أما علاقات روسيا ودولة الاحتلال الإسرائيلي فقد كانت منسقة ومعلنة منذ اليوم الأول للتدخل الروسي، وتلبي مصلحة مشتركة للطرفين أياً كان الموقف الأيديولوجي منها. لن تتخلى تل أبيب عن تحالفها الاستراتيجي مع واشنطن لعيون موسكو، لكنها لن تتورع عن التعاون مع الأخيرة طالما حقق ذلك مصلحتها في ضوء وجود روسيا العسكري في المشرق العربي. بالمختصر، لا مباريات صفرية أو اصطفافات أيديولوجية في سياسات موسكو الشرق أوسطية؛ وإنما حسابات براغماتية. وبرغم تعقيد الحسابات الروسية وبراغماتيتها المفرطة، لا يبدو نجاحها أمراً مضموناً، وإنما يبدو متعلقاً ببقاء أو تبدل التوازنات الراهنة في النظام الدولي. يقدم فلاديمير بوتين عرضاً جديداً لجدلية «الوحدة والصراع» في ساحات الشرق الأوسط، ذلك الذي لا تنفع في تحليله وفك طلاسمه الأيديولوجيا وشعاراتها الرنانة!

  مصطفي اللباد: السفير