تفوح رائحة النفط والغاز من كل الساحات الإقليمية المشتعلة أو الهادئة. ها هي إيران تطلق مشاريع طرق وسكك حديدية وأنفاق بحرية وأنابيب نفط وغاز تجعلها على تماس مع أوروبا والصين وروسيا والهند وباكستان وشمال أفريقيا ومعظم الشرق الأوسط. ما يسري على إيران ينطبق على دول الخليج وروسيا، فيما تطمع تركيا بدور الممر الإلزامي للأنابيب المتجهة صوب أوروبا، وتعمل إسرائيل على صياغة ائتلاف مع قبرص واليونان وصولا إلى أوروبا.
على أرض المنطقة وفي أجوائها، حروب ودمار ودماء وحرائق وشعوب تموج نزوحاً وتهجيراً وصبراً على الندوب والمصائب. وما لا يدركه أغلب الناس، أن هذا الصراع ببعض أسبابه ومجرياته ونتائجه قد يكون شبيها بمرحلة سايكس ـ بيكو قبل مئة سنة، عندما ارتسمت معظم حدود كيانات المنطقة على أساس ثرواتها النفطية التي كان البريطانيون سبّاقون باكتشافها منذ نهاية القرن التاسع عشر.
ماذا ونحن على عتبة إعادة رسم خرائط الإقليم مجدداً، وهل أن طبقتنا السياسية المياومة التي تعمل «على القطعة» جديرة بمقاربة تحديات كهذه، خصوصاً أن الكثير من المؤشرات تدل على أن لبنان مؤهل بمكامنه الطبيعية للتحول إلى لاعب اقتصادي، مثلما جعلته مقاومته وجيشه وقواه العسكرية والأمنية نموذجاً في الانتصار على الإرهابين الإسرائيلي والتكفيري.
يأتي طرح هذا السؤال في لحظة يزداد فيها الضغط على الواقع المصرفي اللبناني كما على مجمل الواقع الاقتصادي والمالي، لكن العنصر الأكثر تبديداً لبعض المخاوف من مخاطر انهيار مالي أو من ضغط مستقبلي على الليرة اللبنانية، هو الاهتمام الأميركي المتزايد بملف النفط والغاز في لبنان، بدليل أن الزيارة الأخيرة لمساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الطاقة والنفط والغاز آموس هولشـتاين، بالتزامن مع زيارة مساعد وزير الخزانة الأميركي لشؤون تمويل الإرهاب دانيال غلايزر، حملت في طياتها استعداداً أميركياً لإيجاد تسوية ما للخلاف الحدودي بين لبنان وإسرائيل.
واللافت للانتباه أن هذا المناخ الأميركي الذي كان قد تم التعبير عنه قبل أكثر من سنة، قبل أن يختفي أثر هولشـتاين واقتراحاته، ترافق مع تسلّم هيئة ادارة النفط في لبنان تقارير تتحدث عن تقديرات جيولوجية أميركية بأن المكامن المشتركة بين لبنان واسرائيل محصورة بـ «البلوك 9»، وهو الواقع في الجنوب بين «البلوكين» الثامن المشترك مع اسرائيل وقبرص (أساس النقطتين الخلافيتين وهما 1 و23) والعاشر المتصل بالشاطئ الجنوبي.
وكانت خرائط جيولوجية سابقة قد عمّمتها اسرائيل نقلا عن شركات أميركية قد أظهرت وجود مكامن مشتركة حتى في «البلوكين» الثامن والعاشر بالإضافة الى التاسع بطبيعة الحال.
كما تبين أنه عندما كان محمد عبد الحميد بيضون وزيراً للطاقة (في العام 2000) طلبت شركة «تي. جي. اس.» الانكليزية المتخصصة بالمسح، موافقة وزارة الطاقة على اجراء مسح بحري جيولوجي يشمل الجنوب اللبناني وشمال فلسطين المحتلة، وتبين للشركة وجود مكامن مشتركة في معظم الجانبين.
وقد بادرت هيئة ادارة النفط الى تحريك هذا الملف في العام 2013، وقدّرت وقتذاك أن المكامن المشتركة موجودة في أكثر من «بلوك» جنوبي، وأن الحدود اللبنانية بعيدة عن حقل «كاريش» الاسرائيلي حوالي 4 كيلومترات، واللافت للانتباه أنه تم بعد سنتين اعتماد معطى مختلف في هيئة النفط مفاده أن الحدود البحرية اللبنانية تبعد عن «كاريش» حوالي عشرة كيلومترات.
وجاءت تقديرات الأميركيين الأخيرة أقرب الى الرقم الذي أعطي في العام 2013، اذ أنها اعتمدت معادلة الخمسة كيلومترات بين حدود لبنان وبين حقل «كاريش».
هذا التركيز على المكامن المشتركة، أسس لجعل فريق سياسي لبناني، يتقدمه رئيس مجلس النواب نبيه بري و «المستقبل»، يدعو الى التركيز على الترسيم البحري عبر الأمم المتحدة (الاجتماع الثلاثي في الناقورة)، بالتعاون مع الاميركيين، مقابل الابتعاد في مرحلة الترسيم، التي لا يمكن أن تتجاوز ثلاثة أشهر، عن المكامن المشتركة، بحيث يصار الى اقرار «المرسومين الشهيرين» بشكل رسمي في مجلس الوزراء، وهما مرسوم «البلوكات» البحرية ومرسوم نموذج اتفاقيّة الاستكشاف والانتاج ودفتر الشروط، مقدمة لعرض أو فتح «البلوكات» العشرة، وهي الصيغة التي كان قد وافق عليها وزير الطاقة آرتور نظريان قبل أن يتراجع لأسباب ليست خافية على أحد..
وكان لافتا للانتباه، وفق المعلومات التي أكدها مرجع حكومي سابق، أن وزير الطاقة الفعلي جبران باسيل أصرّ على أن يشمل التلزيم «البلوك» الرقم 9، في محاولة لإحراج رئيس مجلس النواب، علما أن المكامن المشتركة، وفق تقديرات جيولوجية سابقة، تبدو أكبر بكثير في «البلوك» الرقم 8، ولم تبد وزارة الطاقة في السابق أية حماسة لتلزيمه!
هذا التناقض اللبناني جعل الأميركيين يغادرون لبنان قبل أقل من شهر، بلا تعويم المبادرة التي كانوا يعتقدون أنها يمكن أن تؤدي إلى كسر الحلقة المفرغة في التعامل الرسمي اللبناني مع ملف الخلاف الحدودي، وكان آموس هولشتاين صريحاً بدعوته اللبنانيين أن لا يبقوا أسرى خلاف حدودي، وبالتالي ان لا يضيعوا فرصة يجمع كل خبراء الاقتصاد والمال والنفط على أنها لا تقدّر بثمن، وهو سمع رأيا لبنانياً يجزم بأنه لو تم تثبيت التفاهم الذي أبرم معه لأمكن تلزيم «البلوكات» في صيف العام 2017.
وليس خافياً على أحد أن أسعار النفط في العالم من جهة، والفرص النفطية في مناطق أخرى من جهة ثانية، جعلت الكثير من الشركات العالمية المؤهلة تبتعد تدريجياً، وخصوصاً تلك التي اتخذت قراراً بعدم الحفر في البحر في عمق يتجاوز الألف متر، ربطا بارتفاع الكلفة مقابل انخفاض أسعار النفط.
إلى أين ومن وراء هذا الهدر المتعمّد للفرصة اللبنانية الضائعة، والتي يمكن أن تشكل مادة دسمة من أجل إقناع الأميركيين في هذه المرحلة بتخفيف ضغطهم على لبنان وتحديداً على البيئة الحاضنة لـ «حزب الله»، عبر انخراط شركاتهم في أعمال التنقيب عن النفط، خصوصا في «البلوكات» الجنوبية، تماما كما يحاول الإسرائيليون إشراك الشركات الروسية في التنقيب في الحقول القريبة من لبنان!
يجمع كل من عايش تجارب الحكومات المتعاقبة منذ العام 2010 حتى الآن، على أن مفتاح «الفرصة النفطية» موجود في مكانين لا ثالث لهما محلياً، وهما الرابية وعين التينة، إذا كانت القضية محصورة بتوزيع «البلوكات» ولا توجد «قطب مخفية» خارجية.
هنا يصبح القول إن الحوار المباشر والصريح بين الرئيس بري والعماد ميشال عون أصبح من الأهمية بمكان بحيث لا يجوز تأجيله يوماً واحداً نظراً للتداعيات التي لم تعد تقتصر على هذا الملف الإستراتيجي الحيوي وحده، بل تشمل ملفات أخرى، أبرزها ملف الكهرباء الذي يرهق الخزينة اللبنانية ويكبّدها أعباء سنوية تفاقم العجز.
واذا كانت الكيمياء المشتركة مفقودة بين الرجلين، لا بأس بحد أدنى من «الكيمياء الضرورية»، على أن يمهّد لها فريق عمل مشترك يبادر الى دراسة الملفات الخلافية وفي طليعتها النفط والكهرباء، لعل ذلك يؤسس لتفاهمات أكبر بين الاثنين، الا اذا كانت هناك ارادة مشتركة بإبقاء الأبواب مقفلة، وعندها لن يكون مفاجئاً استخدام «الفيتوات» المتبادلة، وبالتالي تضييع الفرصة تلو الأخرى.
ثمة ثوابت لا يختلف عليها اللبنانيون بتمسكهم بكامل حدودهم البحرية وحقهم في الاستفادة من ثرواتهم النفطية والغازية من دون نقصان، لكن بمعزل عن الترسيم، وعلى أهميته القصوى، لماذا لا يضع لبنان نفسه فور اكتمال جهوزيته التقنية (البداية بإقرار المرسومين) على خريطة الغاز والنفط في الشرق الأوسط؟
الجواب في الرابية وعين التينة وليس بطرح الأمر على طاولة الحوار الوطني.