اكتشف الإنسان نعمة اللغة ونعمة الحوار، واتسعت أحلامه بهاتين النعمتين لينظم بهما حياته في الأسرة، وحتى اجتماعياته في السياسة والثقافة والاقتصاد، وأتاح له الحوار أضمومة تجمع بين قدراته العقلية والمعرفية وبين خبرات الآخرين وتجاربهم، 

فاغتنى بذلك لتحسين ذاته ومجتمعه واجتراح الحلول عند كل مشكلة تعترض تطوير الإنماء والعمران في دنياه وسياقاتها التاريخية التي تأثرت كثيراً بالحوار وجعلت منه جزءاً لا يتجزأ من هويته الثقافية وأياديه القابضة على مقود التنمية وما يتصل بآمالها من بحث مضيء عن الأكمل والأفضل.
واكتشف الإنسان نعمة ترتيب الأولويات من برامج الحوار، فوقف عند المعوقات والعراقيل التي تحول بينه وبين الشروط الأساسية لبناء حاضره ومستقبله، وفي مقدمها شروط العلم والمعرفة والعمل وإتقانها بالتكامل ومشاركة المرأة وتحصينها من وحول الجهالة والفتن بتصحيح علاقته بهويته الخاصة من جهة، وتصحيح علاقته الإنسانية بهوية الآخر وثقافته من جهة ثانية، ليستخلص من ذلك كله إمكانية الاستثمار في الإنسان وفي الحوار لمصلحة القيم المشتركة التي تحمي الجميع بعيداً عن الأحقاد والعصبيات التي ترفع أسوار القطيعة وتهدد بالغزو الثقافي أو الاستلاب الثقافي الذي يثير قلق الحوار في عالم يصطرع بين ثقافة الأقوياء وثقافة الضعفاء، ونتائج ذلك فيما نراه من أعاصير التباين والاختلاف على القيم الأخلاقية ذاتها التي انتهت بنا إلى خواء المعنى من حضارتنا الإنسانية، وأنتجت ظاهرة الاضطراب في العلاقات الاجتماعية بين الأديان والثقافات، كما لو أن خللاً واضحاً في بنية التفكير الإنساني يصعب معه على الإنسان أن يبصر الطريق الصحيح إلى سلام الحوار سلاماً يتيح للجميع إنجاز سلام الثقافة وسلام التنمية. وواضح من ذاك القلق وهذا الاضطراب أن مواجهة الخلل في المشهد الثقافي العربي تقتضي بداية أن يبدأ بتغيير الأنفس - حتى يغيروا ما بأنفسهم- ورد الاعتبار لدور المرأة والأسرة في بناء الوعي العام وتحدياته وتأكيد الإيمان بكرامة الإنسان وحقوقه بمعزل عن عرقه ودينه ولونه، وإيتاء هذا الإيمان نصيباً من العلم ونصيباً من التربية لمواجهة هذا الظلام بين ليلين من ظلم الاستبداد وظلم الاحتلال الذي يعتمد عادة على تخريب العقول تمهيداً لتقسيم الشعوب وجغرافيتها الطبيعية تحت لافتات التعصب الطائفي والتمييز العنصري وسوى ذلك من ذرائع الاستغلال والقهر والاستعباد.
 نقول هذا ونحن على وعي بأن ما يجري من تمزيق لأوصال أوطاننا كان مسبوقاً برفع أسوار القطيعة وجدران الكراهية وتمزيق ثقافتنا العربية وتشويه قيمنا الروحية والأخلاقية. وهكذا نجد أنفسنا أمام استحقاقات الإصلاح بعامة وإصلاح البيئة الاجتماعية بخاصة، أمام دعوة قديمة جديدة عنوانها هذه المرة الاستثمار في الحوار وفي الإنسان لمحو الأمية الأبجدية والأمية الثقافية والأمية الوطنية والأمية الدينية وهذه مسؤولية الجميع، وهي أقل ما يجب أن نعبر به عن حبنا لهذا الإنسان وهذا الوطن.
وبعد، إن حالة الانهيار التي يمر فيها مجتمعنا العربي وتزايد نسبة الانقسامات الحادة بين أبناء الأمة الواحدة يستدعيان اليوم أكثر من أي وقت مضى عدّ قضية الحوار في المقام الأول من جميع قضايانا، ليشارك الجميع بإيجابياته وأخلاقه في معترك التحديات الراهنة والقادمة لحماية أوطاننا وشعوبنا من عمليات الاختراق اليومي لمنظومة وحدتنا الدينية والثقافية والحضارية ولاسيما بعد عقود من زمن التبشير بقدوم عصر الحروب الثقافية وتجهيز أدواتها المتمثلة بأنظمة الاستبداد وحركات العنف والتطرف وجيوشها المعادية لجوهر الأديان التوحيدية السمحة وقيمها الإنسانية في الحوار وسلمنا الأهلي وعيشنا الواحد المشترك.

الشيخ حسين أحمد شحادي
.