من بديهيات الواقع الاستراتيجي لدولة إسرائيل، أن أمنها وحراكها العسكري والدبلوماسي والسياسي والاقتصادي والوجودي، منذ نشأنها، مرتبطان بقرار غربي تزعمته لاحقا الولايات المتحدة الأميركية.
ومن بديهيات هامش مناورات أي رئيس وزراء لإسرائيل، بما في ذلك بنيامين نتنياهو، ومنذ حرب السويس عام 1956، أن حركة إسرائيل، ومهما طرأ عليها من شطط، تبقى تحت السقف الأميركي، ليس لأن إسرائيل تحتاج إلى الولايات المتحدة فقط، بل لحاجة أميركية إلى إسرائيل لأسباب تتجاوز عوامل الأمن الاستراتيجي، لترتد إلى عناصر الكينونة المجتمعية والنخبوية والثقافية لواقع الولايات المتحدة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية.
وإذا ما اتفقنا على تلك البديهيات فإننا ندرج تطوّر العلاقات بين تل أبيب وموسكو في خانة المتاح، وربما المطلوب أميركيا، لكن أيضا في خانة حاجة موسكو إلى الانخراط في منظومة سياسية عقائدية لا تختلف عن تلـك الأميركية في مـا يتعلق بشؤون إسرائيل.
لم ينخرط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حربه في سوريا إلا بعد أن أطلع بنيامين نتنياهو على خططه، واستجاب لمطالب إسرائيلية كان على موسكو التقيّد بها، بحيث بات لتل أبيب اليد الطولى، وبرعاية روسية، لإزالة ما تراه خطرا على أمنها في سـوريا. بـدا أن “الفيزا” الإسرائيلية كـانت مطلـوبة من قبل سيّد الكرملين لتسويق تدخله في مسار الأزمة السورية لدى الإدارة الأميركية. فأما وأن الهمّ الوحيد لواشنطن في ما يتعلق بالأزمة السـورية، على مـا ثبـت في السنوات الأخيرة، هو أمن إسرائيل، فإن “رضى” تل أبيب عن مغامرة موسكو السورية يمنح المسعى الروسي طريق المرور إلى قلب واشنطن.
تشاركت الولايات المتحدة وروسيا في التواطؤ والتنسيق لإزالة الخطر الذي تمثّله الأسلحة الكيماوية في سوريا على أمن إسرائيل. بدا عزف البلدين منسقا وفق توزيع فجّ للأدوار، بحيث تعبر واشنطن عن غضبها من استخدام النظام السوري لتلك الأسلحة في غوطة دمشق (21 أغسطس 2013)، وتعتبره تجاوزا لخط أحمر كان وضعه الرئيس باراك أوباما منذرا، وتحرك سفنها باتجاه شواطئ سوريا. وتتولى موسكو بالمقابل بشخص وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، استدعاء نظيره السوري وليد المعلم لترتيب اتفاق كامل تقوم بموجبه دمشق بتسليم ترسانتها الكيماوية كاملة من دون تردد ولا رفة جفن.
وعليه فإن مثلثا أميركيا روسيا إسرائيليا يرتفع فوق المنطقة عموما، وفوق الميدان السوري خصوصا، فيما يدخل التقارب الروسي الإسرائيلي مرحلة استـراتيجية عبـرت عنها الزيارة التي وصفت بـ“التاريخية” لرئيس الوزراء الإسرائيلي إلى روسيا لإحياء الذكرى الـ25 لإعادة العلاقات بين البلدين.
لم تكن المناسبة تحتاج إلى هذه الاحتفالية الكبرى. وكأن الجانبين أرادا أن يحتفلا بذكـرى إعـادة العلاقـات بتقديس حدث العودة عـن خطـأ باتجاه تكريـس ما هـو صحيح. والصحيح أن علاقات موسكو وتل أبيب لم تعد، بعرف البلدين، ظرفية انتهازية طارئة، بـل هي جـذرية تتصل بخطط البلدين الثنائية، وبالشراكة الكاملة المتكاملة في ما يُعدُّ للمنطقة، ولسوريا خصوصاً.
زار نتنياهو روسيا ثلاث مرات خلال تسعة أشهر، بما يعني أن وتيرة تردده على موسكو تفوق تلك إلى واشنطن أو أي عاصمة غربية، ثم إن رجل إسرائيل الأول لا يوفر دولا تعتبر تاريخيا صديقة، كفرنسا والولايات المتحدة، من انتقادات لاذعة، فيما يلاحـظ المراقبون لتاريخ العلاقات الإسرائيلية الأميركية، بأنه رغم أن المساعدات المالية والعسكرية والسياسية التي قدمتها إدارة أوباما لإسرائيل هي الأكبر مقارنة بالإدارات السابقة، فإن الرئيس الأميركي الحالي هو أكثر الرؤساء الأميركيين المكروهين في إسرائيل، كما أنه لم يسبق لرئيس وزراء إسرائيلي أن مارس إذلالا لرئيس أميركي كالذي مارسه نتنياهو بحقّ أوباما.
مقابل ذلك حرص رئيس الوزراء الإسرائيلي على عدم توجيه أي انتقادات إلى موسكو والرئيس بوتين، وحتى تصريحات وزيـر الدفاع الإسرائيلي المتطـرف ذي الأصول الروسية، أفيغدور ليبرمان، جاءت إيجابية مرحبة بعلاقات متينة بين البلدين، لا بل إن الإسرائيليين الناطقين بالروسية (20 بالمئة) أصبحوا يمثلون لوبي “إسرائيل الروسية” يدفع باتجاه تحالف حقيقي بين البلدين.
لا يهمّ ما الذي دار في اجتماع وزراء دفاع روسيا وإيران وسوريا في طهران (9 يونيو الجاري). ولا يهمّ ما إذا كان الاجتماع ناقش وسائل تطوير التنسيق العسكري بين العواصم الثلاث في المرحلة المقبلة. ولا يهمّ ما إذا كان أمر الاجتماع، الذي لم يرشح منه الكثير، أخذ طابعا كان يُراد منه إرسال رسائـل متعددة المقـاصد والاتجـاهات. ولا يهمّ ما إذا كان الاجتمـاع سيحددُ مسار معركة حلب وحصص الأطراف الثلاثة داخلهـا. ما يهمّ فقط أن الاجتماع عُقد مباشرة بعد أن أخذت طهران ودمشق علما بحميمية واستراتيجية العلاقات الجديدة بين روسيا وإسرائيل، بما يعني أن مداولات اجتماعات طهران هي جزء/ وستكون جزءا من مداولات الأمن الإقليمي بين موسكو وتل أبيب.
لكن الأنكى من ذلك أنه بعد انفضاض اجتماع مسؤولي الدفاع في العواصم المعتبرة ممانعة تجابه “الأجندة الأميركية الغربية الصهيونية .. إلخ” في المنطقة، كشفت مصادر استخبارية إسرائيلية عن عزم موسكو وتل أبيب قريبا على إجراء مناورات عسكرية مشتركة هي الأولى من نوعها في تاريخ المنطقة بين البلدين، بحيث ستشارك في تلك المناورات طائرات روسية ستنطلق من مطارات في داخل سوريا (قاعدة حميميم) وسفن حربية روسية ستنطلق من قواعدها في سوريا (طرطوس واللاذقية).
أعادت موسكو الدبابة الإسرائيلية التي غنمها الجيش السوري في معركة السلطان يعقوب في منطقة البقاع الغربي في لبنان عام 1982. قدمت دمشق الغنيمة لموسكو، فأعادتها الأخيرة إلى أصحابها معلنة بذلك استقالتها من موقف سوفيتي متقادم إزاء الصراع العربي الإسرائيلي، ملمّحة بانحيازها للجانب الإسرائيلي. ليس في الأمر أي تهكم أو سخرية أو أي خيال. هي حقيقة تؤكدها الأحداث والمواقف والتصريحات. أصبحت إسرائيل وروسيا في خندق واحد، فيما إسرائيل والولايات المتحدة في خندق واحد. بالمقابل تنحشر موسكو وطهران وتوابعها من حزب الله إلى بقية سبحة الميليشيات التابعة في خندق واحد لحماية نظام دمشق.
وفيما واشنطن وموسكو تتشاركان وتتواطآن في خندق سوري واحد، فإن دول “الممانعة” التي لا يمكن أن تتمدد وتستدرج واشنطن وتل أبيب داخلها، تنعطف آليا ومنطقيا لتصبح أدوات في خدمة أجندة إسرائيلية روسية أميركية معلنة جلية لا لبس فيها.
هو زمن العبث بامتياز. أتذكر بالمناسبة ما قاله لي الشيخ صبحي الطفيلي، الأمين العام الأسبق لحزب الله، حين قابلته قبل أشهر في منزله في عين بورضاي في البقاع في لبنان: “أقول بصراحة كلّ من يقاتل اليوم إلى جانب الروسي هو عميل للروس يموت في معركة ليست له علاقة بها، ومن يموت في سوريا يُصرف دمه على طاولة أميركا وروسيا”.
قال الرجل هذا الكلام في مارس الماضي قبل أن يتّضح هذه الأيام أن إسرائيل هي من يحتل رأس تلك الطاولة.
العرب: محمد القواص