ترجمة د. حسين عبد الساتر و التقديم للشيخ حيدر حب الله.

صدر كتاب”التشيّع والتحوّل في العصر الصفوي” لكولن تيرنرضمن منشورات دار الجمل سنة 2008، واضطلع بترجمته من اللغة الأنجليزية حسين علي عبد الساتر، ويعتبر هذا الكتاب من أهمّ ما كتب في العصر الحديث في مجال الدراسات الإيرانية عمومًا وما تعلّق منها بالحقبة الصفوية بصفة أخصّ، واستطاع المستشرق الأنجليزي كولن تيرنر أن يجيب على عدّة أسئلة خطيرة تتعلّق بمدى أصالة الفكر الشيعي السائد، ومنذ الوهلة الأولى يشدّ انتباهك عنوان الكتاب في لغتيه المترجم عنها والمترجم إليها، فصاحب الترجمة: حسين علي عبد الساتر لم يلتزم بعنوان الكتاب كما ظهر في لغته الأمّ، ومبرّر ذلك خوفه من إثارة البلبلة والفتنة، صدر الكتاب باللغةالأنجليزية سنة2000 تحت عنوان

Islam without Allah

و ينقسم هذا العنوان إلى قسمين، تعلّق القسم الأول الذي ينتهي بنقطة استفهام تدلّ على التعجب والإنكار بحادثة طريفة أوحت لكولن تيرنر بعنوان الكتاب: “إسلام بدون الله”، وتتمثّل في احتجاج أحد علماء الدّين الشّيعة وانتقاده الثورة الإسلاميّة وخطابها بإيران عند قيامها سنة 1979، إذ “بعيد قيام أوّل جمهوريّة إسلاميّة في إيران علّق الشيخ محمود البيساني قائلًا: ما نحتاجه ليس ثورة إسلام بل ثورة إيمان، فبدون إيمان كلّ ما يتبقّى لنا إسلام بدون الله”،
ويبدو أنّ المترجم أهمل هذا القسم من العنوان خوفًا من سوء فهمه، أمّا القسم الثاني من العنوان الأنجليزي فيتحدّث عن صعود الفكر الديني البرّاني في إيران الصفوية، وندرك من خلال فصول الكتاب أهمية مرحلة التأسيس عند كولن تيرنر، فالرجل أراد أن يجيب عن سؤال خطير مفاده: كيف أصبحت إيران دولة شيعية بعد أن كانت لقرون من الزمن سنية صوفية؟استغلّ المترجم بحث المستشرق عن خلفيات هذا التحوّل فاقترح عنوانًا بديلاً: “التشيّع والتحوّل في العصر الصفوي”،
وينطلق هذا العمل من فرضية مفادها أنّ التشيّع فقد هويته مع الصفويين واتخذ له أشكالاً جديدةً لا تمتّ بصلة إلى التشيّع الأول، فقد استطاع الصفويون أن يبدعوا فكرًا شيعيًّا جديدًا، تناقلته الأجيال باعتباره فكرًا أصيلاً، ولقد عبّر حيدر حبّ الله في تقديمه الكتاب عن هيمنة هذه المرحلة قائلاً: “آثار العصر الصفويّ ما تزال حاضرة بقوّة اليوم في الحياة الشيعية، مهما كان موقفنا -إيجابيًّا أو سلبيًّا- منها، بل يمكنني القول بأنّ الإنسان الشيعيّ قد أعيدت صياغته من جديد بعد هذه الحقبة”، واختزل المؤلّف ثقافة العصر الصفوي في كتاب بحار الأنوار لمحمد باقر المجلسي، وكان العمل في بدايته مخصّصًا للحديث عن المجلسي الذي “تنظر إليه على أنّه تجسيد لانتصار الظواهر الخارجية للدين على المضامين الداخلية”، ولكنّ شحّ المصادر جعله يوسّع من آفاق العمل.
قسّم كولن تيرنر كتابه إلى خمسة فصول متكاملة، حاول من خلالها أن يرصد التحوّل الثقافي زمن الصفويين من عدّة زوايا، فدرس في الفصل الأوّل ما حصل من انزياحات في هذه الفترة من خلال ثنائية الإيمان والإسلام، وركّز المستشرق على دلالات المصطلحين في القرآن والسنّة، باعتبار أنّ الانزياح تجاوز النصّ وأسّس مرجعية بديلة اضطربت فيها الدلالات وحصل فيها “الخلط في مصطلحي الإيمان والإسلام”، ونتجعن هذا الخلط هيمنة الفقه والفقهاء و”ترسيخ التفريعات الفقهية وجعلها الشغل الشاغل للعلماء المسلمين” ورأى المؤلّف أنّ الإيمان مرتبط بالتفكّر والتأمّل والفهم، بينما يتطلّب الإسلام في مراحله الأولى “قبول أوامر الخالق وإطاعته، هذه الأوامر تتجسّد في مدوّنة القوانين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المسمّاة بالشريعة الإسلامية”،
واعتبر المؤلّف الإيمان إسلامًا داخليًّا في مقابل الإسلام الخارجي المتعلّق بإظهار الطاعات، وفرّق بين الإسلام بما هو تسليم لله والإسلام بما هو تسليم لأوامره، واستأنس في ذلك بآيات قرآنية تتحدّث عن الإسلام والإيمان وبآراء أبرز علماء المسلمين السنّة والشيعة.
اهتمّ الفصل الثاني من الكتاب بـ”الدين في إيران القروسطية وبزوغ نجم الصفويين”، وحاول المؤلّف من خلال هذا المبحث أن يضع المسألة إلى سياقها التاريخيّ والثقافي، فتحدّث عن ثنائيات أسهمت بصفة أساسية في تشكيل الثقافة الفارسية الإسلامية تتعلق بالجوانية والبرانية، وأهل الباطن وأهل الظاهر، وأهل الكشف وأهل النقل، والصوفي والفقيه. وبيّن أنّ الجوانيّ”هو العالم المسلم الذي يركز اهتمامه على أصول الإيمان وبشكل أخصّ على اكتساب المعرفة بالله وصفاته”،
أمّا البرّاني فهو العالم المسلم الذي ركّز جهوده الدراسية على العلوم النقلية وكان جلّ اهتمامه منصبًّا على التبحّرفي الفروع”، وتوصل المؤلف إلى استنتاج خطير أورده على لسان محمد يوسفي أحد علماء الشيعة مفاده أنّ “أكثر المسلمين مسلمون بالاسم والعرف والموقع الجغرافي فحسب، هم لا يتدبرون ولا يفكرون، ويأخذون ايمانهم أخذ المسلّمات”.تحدّث كولن تيرنر في هذا الفصل عن قيام الدولة الصفوية بدايةً من دخول إسماعيل القائد الصفوي تبريز سنة 907/1502 وتنصيب نفسه شاهًا، ولا يعكس اعتناق إسماعيل شاه المذهب الشّيعيّ الإثني عشريّ واعتماده مذهبًا رسميًّا للبلاد في الحقيقة خيارًا فكريًّا أو عقديًّا بقدر ما يكشف خطّة استراتيجيّة في بسط النّفوذ وتحقيق الهيمنة السّياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة،
واستطاع كولن تيرنر أن يرصد هذه الخلفيّات من خلال دراسة المرحلة الصّفويّة وتأثيراتها العقديّة والسّياسيّة، ولا يمكن تمثّل هذا التحوّل دون النظر في وضع المذهب الإثني عشريفي إيران قبل الصفويين، وفنّد الباحث أقوال نور الله الشوشتري الذي “بذل قصارى جهده لإثبات أنّ إيران كانت إمامية بمعظمها قبل الصفويين”، والحال أنّ إيران كانت في معظمها سنية صوفية، حتّى أنّ إسماعيل”عجز بعد فتحه عن العثور على أيّ مدوّنة عن المبادىء العامة للإمامية ماعدا مخطوطة يتيمة في الفقه كانت في مكتبة نائية”،
وكانت الصفوية “في بادىء أمرها طريقة صوفية في بلدة أردبيل في أذربيجان في بداية القرن الثامن الهجري”، واستطاع صاحب الطريقة الصفوية الشيخ صفي الدين أن يجلب احترام النّاس والساسة، فقد كان شافعيًّا متصوّفًا، وحافظ ابن صفي الدين وحفيده وحفيد حفيده على الطريقة بالتوجه ذاته، وبلغت الطريقة من القوّة ما أهّلها للوساطة بين الحكام وخصومهم”، وأخذت الطريقة منعرجًا جديدًا مع الشيخ الجنيد (تـ 864/1460) نتج عنه تحوّل رأى المؤلف أنّه ليس من السهل تفسيره، ولم يكن التحول فكريًّا فحسب، بل تحولت الطريقة الصوفية السنية إلى فرقة شيعية تتبنّى الغلو في علي بن أبي طالب وتعتمد القوّة المسلّحة لتغيير المجتمع، واستطاعت في أقل من نصف قرن أن تحتل تبريز وتنصّب إسماعيل حفيد الجنيد شاهًا على إيران.
ويعتبر الفصل الثالث من الكتاب محور العمل، إذ تناول فيه المؤلّف “ترسيخ السلطة الصفوية ونهوض البرانية الإمامية”، وأكد أنّ إسماعيل الصفوي لم يكن مطلعًا على الفقه الإمامي وكان من أهل الغلوّ كما هو حال جده الجنيد، كان يدّعي الربوبية ويعتقد الناس في خلوده”، ورجّح كولن تيرنر أن يكون اعتناق الصفويين المذهب الإماميّ ضربًا من ضروب التكتيك السياسي الهادف إلى الحفاظ على الحكم، و”كما اعتنق أجداد إسماعيل الغلوّ للوصول إلى السلطة، فإنّه ومستشاريه سيستعملون مذهب الإمامية الأرثوذكسي للحفاظ عليها”، واحتج الباحث بقول لأحد علماء الشيعة مفاده أنّ الصفويين “لم يقيموا سلطانهم على أساس الإيمان ولا على الإسلام”، وركّز كولن تيرنر على دور الشيخ علي الكركي العاملي في نشر المذهب الإمامي بإيران في عصر إسماعيل الصفوي، حتى أنّ بعضهم اعتقد أنّه مؤسّس الفكر الشيعي.
كان الكركي متحمسًا للصفويين إلى درجة أنّه كتب رسالة يبيح فيها التقليد الفارسي القديم المتعلق بالسجود أمام الملك، وتحصّل الكركي على امتيازات وعقارات بسبب ولائه المطلق للصفويين، وتابع المؤلّف بدقّة التحوّلات الفكرية والاجتماعية التي صحبت إعلان الصفويين تشيّعهم واستقدامهم علماء الشيعة العرب من جبل عامل وسوريا والبحرين، فقد قمع الكركي التسنّن وفرض التشهير المذهبي بالخلفاء الراشدين الأوائل: أبي بكر وعمر وعثمان، وكان الكركي نفسه يشرف على ذلك، بل أصدر فتاوى أوجب فيها لعن الخلفاء وحكم بنجاسة أهل السنة والمتصوفة وجعلهم في مقام الكلاب والخنازير والكفار وما شابهها من أشياء نجسة في الإسلام،وأدخل تغييرًا طفيفا في صيغة الآذان، وكان الكركي أوّل من قال من الإمامية بأنّ الفقهاء هم النواب العامون للإمام المهدي الغائب، وابتدع بذلك فكرة ولاية الفقيه التي ستعتمد بصفة رسمية في نظام الحكم بإيران بعد الثورة. بعد وفاة إسماعيل شاه واصل ابنه طهماسب سياسة تشييع البلاد، وتعامل بقسوة مع الجماعات السنية التي بقيت مزدهرة، وركّز كولن تيرنر في هذا القسم من الكتاب على تواصل وفود علماء الإمامية العرب على إيران ومساهمتهم في نشر الفكر الإمامي وتغيير المشهد الثقافي ببلاد فارس،وفرض طهماسب بإيعاز من الشيخ الكركي التعاليم الإمامية الإثني عشرية وأمر بقراءتها في المساجد وأن تكون عنصرًا أساسيًّا في خطبة الجمعة، وهي عبارة عن مديح مفرط للأئمة.وجدير بالذكر أنّ المؤلّف تنبّه إلى أمر خطير ما زال يوجّه المشهد السياسيّ والثقافي بإيران إلى اليوم، يتمثّل في الصراع بين الثقافة المحلية والثقافة الوافدة، واعتبره كولن تيرنر صراعًا بين طبقة الإكليروس والجماعة الدوغمائية، و”تشمل الطبقة الأولى الوجهاء المحليين،
بينما تشير الطبقة الثانية إلى فقهاء الإمامية الوافدين إلى البلاد في العصر الصفوي”، ونشأ بين الفريقين صراع وحقد ما زالا متواصلين إلى يومنا هذا.
ولئن ركّز العلماء العرب الوافدون على الفقه والعلوم النقلية، فإنّ العلماء المحلّيين اهتموا أكثر “بالفلسفة والنحو والمنطق والرياضيات والفلك والأدب والشعر. وعموما يمكن القول إنّهم برعوا في العلوم العقلية أكثر من العلوم النقلية”، واستطاع العلماء الوافدون السيطرة على المناصب الدينية المهمة بالبلاد بعد أن كانت تحت سيطرة المحليين، واحتفظت الطبقة الأستقراطية العلمانية، كما يسميها المؤلف بمنصب الصدر، واستطاع طهماسب أن يحقق التوازن بين الجماعتين، وبقدر ما حارب إسماعيل الثاني الغلوّ ومنع سبّ الخلفاء عائشة أم المؤمنين، فإنّ عباس شاه حارب التسنن وكرّس الغلوّ الإمامي.
أصبح الفكر الشيعيّ الإثني عشري ببلاد فارس منذ استقدام الفقهاء العرب أمام مدرستين ستتواصلان عبر العصور وتتّخذان أشكالاً مختلفة حتّى تستحيل في عصرنا الحالي صراعًا بين من عرفوا على سبيل المجاز بالتقليديين والإصلاحيين.
ولقد أكّد كولن تيرنر أهمية البعد الجغرافي في توجيه هذا الصّراع، فعلماء الإماميّة الوافدون جاؤوا في العموم من قرى عربية صغيرة وحملوا هموم ثقافة تقوم على الترحال والتنقّل، في حين انتسب العلماء الإيرانيون إلى مدن كبيرة استقرّوا فيها مع عائلاتهم منذ آلاف السنين، ويمكن أن نلاحظ خلفية هذا التباين وتداعياته من خلال المواقف المتناقضة من “زواج المتعة”، إذ تحمّس له العرب الوافدون واحترز منه العلماء الإيرانيون، فحذّروا منه ولم يقبلوا به على مستوى العرف الدينيّ والتداول الاجتماعي، ويمكن أن نتبيّن حدّة هذا الصراع الصريح والضمني بين الفريقين من خلال ما انعقد بينهما من مناظرات وسجالات، لعلّ أهمّها ما وقع بين الكركي والمير غياث الدّين معزّ المنصور في بلاط طهماسب، وانتصر الحاكم الصفويّ للكركي وعزل غياثًا.
وبالإضافة إلى ذلك، نقل لنا المؤلف الجدل الذي قام بين الإخباريين والمجتهدين بخصوص نيابة الإمام الغائب وإقامة صلاة الجمعة، إذ لم يكن من السهل في الفكر الشيعي التفكير فيمن ينوب الإمام الغائب.اختار كولن تيرنر أن يهتمّ في الفصل الرابع بمحمّد باقر المجلسي صاحب كتاب “بحار الأنوار” الذي يعتبر من أساسيات التقليد الشيعي، ولم يكن اختياره للمجلسي صدفة، بل كان مقصودًا حقّ القصد، فالرجل يعتبر عصارة الثقافة الصفوية وصاحب الفضل في تدوين كلّ ما أصاب الفكر الشيعي من تحوّلات وانزياحات وتشويهات، تعاملت معها الأجيال اللاحقة باعتبارها حقائق ويقينيات، وكان المجلسي أبرز فقهاء الإمامية في آخر العصر الصفوي، ومؤسس الأرثوذكسية الجديدة، حتى أنّ أحد النقاد وسم الفكر الشيعيّ بدين المجلسي، وعرف المجلسي بقربه من النظام الصفوي، وكان يدافع عن النظام الملكي ويضفي عليه بعدًا شرعيًّا وبعد تعيينه شيخ الإسلام حارب المجلسي السنّة والصوفية وحطم الأصنام داخل المعابد الهندوسية، ويرجح المؤلف أنّ قمع المجلسي للسنّة كان سببًا في سخط الأفغان السنّة، ثمّ غزوهم إيران وإسقاطهم الدولة الصفوية، وبعد انتقال الحكم إلى السلطان حسين (تـ 1722م)استصدر المجلسي فرمانًا بطرد الصوفية من العاصمة وجرى تطبيقه بصرامة، وركّز المجلسي في مؤلفاته العربية والفارسية على كرامات الأئمة وحياتهم، واعتمد أحاديثهم أساسًا لتقعيد الشعائر، مثلما تحدّث في كتابه “تحفة الزائر”عن آداب زيارة أضرحة الأئمةوالأدعية المندوبة لذلك، ونبّه المؤلف إلى أمر خطير يتمثل في أنّ”زيارة المقامات كانت تحظى نسبيًّا بقليل اهتمام من متقدمي علماء الإمامية، لكن المجلسي رأى أنّها جزء مهمّ من مذهب الإمامية”،
ومن الأشياء التي أضافها المجلسي ودافع عنها حصره العلم في معرفة العلوم النقلية المنسوبة إلى الرسول عن طريق الأئمة المتعلقة بالأحكام وخاصة بالعبادات، وعلى هذا الأساس أصبح مصطلح العلم مرادفًا للفقه.وارتأى كولن تيرنر أن يختم الكتاب بفصل خامس وسمه بـ”البرانية تحت المجهر: عقيدتا الانتظار والرجعة عند الإمامية”،
وكان هذا الفصل بمثابة القسم التأليفي وقف فيه المؤلّف عند أهم الانزياحات التي لحقت بالفكر الشيعي في العصر الصفويّ، فتناول فكرة المهدي مثلما تجلت في الطرح الشيعيّ عمومًا والأدبيات الصفوية بصفة أخصّ، وقارنها بما جاء في بقية الأديان، وفي هذا السياق بحث كولن تيرنر في مفهوم الانتظار في الفكر الشيعيّ، ونظر في خلفياته الثقافية والتاريخية والنفسية، وركّز المؤلّف اهتمامه في هذا الفصل أيضًا على كتاب “بحار الأنوار” الذي يعتبر من أهمّ ما كتب في تاريخ التشيّع.استطاع المؤلف أن يضع القارىء أمام حقيقة مفادها أنّ الفكر الشيعي الإثني عشري تشكّل في عمومه في العصر الصفوي،فأغلب مقالات الشيعة وطقوسهم السائدة اليوم تشكّلت في هذه المرحلة.
وأدخل الصفويون وفقهاؤهم روافد جديدة على المنظومة الشيعية، فاهتموا بالعجيب والغريب، وأدخلوا تقاليد اللطم والتطبير، وشجّعوا على سبّ الخلفاء والصحابة وزوجات الرسول، وكفّروا أهل السنّة وأرباب التصوّف، وأضفوا على أئمة أهل البيت هالة من التقديس والتعظيم، تجلّت في الاهتمام بمراقدهم وتخصيصهم بمدوّنة لا يستهان بها من الأدعية والزيارات، ولقد اجتهد المؤلّف في بيان وجوه الانزياح المتعدّدة، فذكر عدّة نماذج تنتمي إلى العقائد أو الأحكام أوتمثّلات المؤمنين، وهي نماذج لم تظهر إلاّ في العصر الصفوي ولكن الأجيال توارثتها على أنّها جزء من التقليد الشيعي الأصيل، وسنختار مثالاً تعمّق المؤلّف في دراسته يتعلّق بمسألة الإمامة وما طرأ عليها من تحوّلات في العهد الصفويّ. فقد عرفت التصوّرات المتعلّقة بالإمامة تحوّلات خطيرة تتعلّق بالفكر الدينيّ بنيةً وفكرًا، وتحوّله من عقيدة محورها الضّمير ومبتغاها سموّ الرّوح إلى فكر يقوم على مبدأ الإمامة السّياسيّة ويتحرّك في فضائها.
وعمل كولن تيرنر على رصد التحوّل من نسق روحيّ قطبه الله إلى فكر سياسيّ محوره الإمام، وآية ذلك أنّ “الإمامة رغم كونها أصلاً فرعيًّا من منظومة أصول الإماميّة، فإنّها فاقت جميع الأصول الأخرى المتعلّقة بها، ومن ثمّ فإنّ عدد الأحاديث الإماميّة التي تتعرّض إلى الأشخاص (الأئمّة) هي أكبر بكثير من عدد الأحاديث التي تصف الحياة والسلوك والتصرّفات اليوميّة لشخصية الإسلام المحورية (أي) محمّد نفسه”، وأصبحت منزلة الإمام توازي منزلة النبيّ، وأحيانًا تفوقه، يشاركه العصمة واللّطف الربانيّ والاستصفاء والرّعاية الدّائمة ويتميّز عنه بدور القيادة والولاية في مفهومها العامّ.
وكما اضطلع الإمام بنيابة الرّسول والتوقيع باسمه فإنّ التقليد الشّيعيّ رشّح- بعد قرون من التردّد- الإمام الفقيه لينوب الإمام المعصوم الغائب ويوقّع بدله عن الله، و”من هنا فإنّ ولاية الفقيه تناظر ولاية المعصوم”، ولم تعد “الإمامة” فرعًا من فروع الدّين بل أصبحت أسًّا من أسس العقيدة وأصلاً من أصول الدّين، من أنكرها فقد ضلّ السبيل.
ليس من اليسير أن نعرض كلّ ما جاء في هذا الكتاب، فمواضيعه كثيرة، ووجوه الاستفادة منه كثيرة ومتعددة، قدّم لنا المؤلّف مادّة علمية دسمة ومدقَّقة، وختم الكتاب بقائمة مصادر ومراجع يمكن الاستئناس بها، حدّثنا عن مرحلة خطيرة من مراحل تشكّل الفكر الشيعي الإثني عشريّ، فذكرشخصيات مهمةّ وكتبًا تأسيسية ومدنًا شهدت أحداثًا خطيرة.
يخرج قارىء هذا الكتاب بزاد معرفيّ لا يستهان به، كما يجد أجوبة لأسئلة تحيّره تتعلّق بالفكر الشيعي الإثني عشري ودور الصفويين في بلورته وتوجيهه الوجهة السائدة، ولا ننكر استفادة المؤلّف من تيار فكريّ إيراني يحاول تطهير التشيّع من رواسب العهد الصفوي،وعلى رأس هذا التيار علي شريعتي الذي ميّز بين التشيع العلوي والتشيع الصفوي، ولكنّ صوته كان خافتًا يكاد لا يسمع.