حين اختار الروائي والقاصّ الأميركي وابن ميسيسيبي ريتشارد فورد الحديث عن الجارة الشماليّة كندا، فعل ذلك يحرّكه كثير من المنطق. نظَرَ إلى نمو مطرح قائم عند طرف وطنه ليشكّل مرآة حيث لا مفرّ من أن يواجه صورته. وبينما تراءى الجزء الجغرافي المحاذي، ولأي عين غير عليمة، شبيهاً ببلاد العم السام، أدرك فورد مبكراً أن الحقيقة كامنة في حيّز آخر.
وحين صمّم فورد على تخيّل كندا كتابياً سخّر انطباعاته هذه ليُقحم شيئاً منها في ذهن فتى في الخامسة عشرة يُبعد في ستينات القرن المنصرم من منزله في مونتانا إلى ركن كندّي بإسم ساسكاتشيوان، إلى ولاية غربيّة يعصى إسمها على اللفظ. في نص تخييلي مدّه بهوية "كندا"، إجتاز فورد حدودا ليست ماديّة فحسب وإنما عقليّة أيضا، وحيث الدهشة إزاء تعايش التصرّف العادي مع تصرّف آخر يعاكسه، باينة تماماً.
ربما يكون الإجتياز كسمة لافتة في منجز فورد حدا بلجنة تحكيم "جائزة أمير أستورياس للآداب" 2016 - الممنوحة إسبانيا وذات الألق الدولي- لتستبقيه كظافر مستحقّ، أما الأكيد فنظرته السرديّة الثاقبة التي قرّبت المسافة بينه وبين هذا التكريم ناهيك بتكريمات أخرى، من قبيل جائزة "بوليتزر" قبلذاك. جاء الإمتياز ليحتفي بنصّ فورد المتماسك حيث الجملة الواحدة تصلح عبرة أدبيّة كما حين يورد في "كندا":"الأمور التي قُمتَ بهاوتلك التي لم تقم بها والأمور التي حلمتَ بها، لا بدّ ستختلط جميعها، بعد وقت مديد".
سأل فورد في منجزه عن احتمال ان تقودنا الحياة إلى مكان ما في المحصلة وجعل فرانك باسكومب الشخصية المحورية في روايته "الصحافي الرياضي" يكرر الإستفهام المؤرق. وفي الطريق إلى محاولة الجواب، شرّح فورد ومن خلال رجل الحياة الإمتثالية "المُفتقرة إلى التصفيق" حال المجتمع الأميركي النفسانيّة من دون صخب مبالغ فيه. ولم يلبث أن أعاد إحياء باسكومب مراراً لتكتمل الجداريّة النثرية في عناوين من مثل "يوم الإستقلال" وغيرها.
تحضُر تجربة فورد منذ منتصف سبعينات القرن المنصرم حين قفز من منصة القصص القصيرة الموزّعة في مجلات "اسكواير" و"ذي باريس ريفيو" و"ذي نيو يوركير" إلى الرواية فسجّل قائمة لافتة حملت مسمّيات "الحظ السعيد الأخير" و"الحياة البريّة" وسواها ورسّخت مكانة فورد كسليل الأدباء المسموعين. والحال انه لا يكفّ عن العودة إلى هذه الأًصوات ليبرّر رجوعه المستمر إلى شخصية باسكومب، فيجد ما يلائمه عند الكاتب والفيلسوف هنري دايفيد ثورو في كلامه عن طبيعة الكتّاب الذين لا يفعلون شيئاً ليجدوا فجأة شيئاً يفعلوه، أو عند الشاعر التشيلياني نيرودا الذي أشار إلى اختمار الجمل التأليفية في رأسه كتجلّ أو إلى فولكنر الذي نجد بصماته الواضحة في باكورة فورد الروائية. في جميع هذه الإحالات أُعجب الكاتب الأميركي خصوصاً بمقاربة حياة الناس لا كحال تراكم وإنما كعملية حذف تدريجيّة.
تكوّن عناوين فورد المتلاحقة حلقات اتسعت للحميمية والأسرار وأزمنة الحداد على شباب مبدّد وغيرها من الموضوعات من دون أن تحيد عن الفكاهة اللصيقة بناس الجنوب الأميركي وفورد أحدهم. هناك، تتبدّى الفكاهة العبثيّة طبيعة ثانية، أما العبث فينبع من واقع عنصري استمر عقودا وخرج على أي منطق، واقع على سخافة مُرّة.
وإذا كان قيل عن فورد على المستوى النقدي انه أبرع القيّمين على متحف الحياة الأميركية، فإنه لم ينفك يمرّر في نصوصه ارتياباً من قدرة الكتابة فيسجل على هذا النحو في رواية "الصحافي الرياضي" التعليق المعبّر التالي "لا تخسر الإنسانية شيئا حين يقرر الكاتب أن يصمت. حين تسقط شجرة في الغابة، من يهتم لأمرها غير القرود؟". سأل فورد هذا بيد انه واصل الكتابة المَدينة لنفَس أسطوري ورقّة نفسانية يتقنها مؤلّفو الأميركيتين.
راح يستكمل استخراج كلمات محمومة لا تعيش سوى في كنف روح مثقلة. واصل اختراع فضوله الإنساني غير آبه بأولئك الذين اقتنعوا انهم يعرفون دوما. فضّل عليهم أولئك الذين يدركون أنهم لن يعرفوا أبدا.