أولاً: الاندفاعة الخمينية في المشرق العربي..
قبل أن تضع الحرب العراقية الإيرانية أوزارها نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، حقّقت الخمينية أولى انتصاراتها في المشرق العربي على أرض لبنان الذي انهكته الحرب الأهلية منذ العام ١٩٧٦ ، وكان الوجود العسكري الفلسطيني على أرضه قد تسبّب بعدوانين إسرائيلين، أسفر أحدهما عن اجتياح لبنان حتى دخول العاصمة بيروت، وأقسام هامة من جبل لبنان، وانتهىت مآسيه بجلاء منظمة التحرير الفلسطينية مع مقاتليها إلى تونس،وكانت الحركة الخمينية على أهبة إعلان تنظيمها الحزبي الذي استقرّ على مُسمّى "حزب الله".
ثانياً: معارك وضع اليد على الجنوب..
أخرجت ،كما قلنا، إسرائيل منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وتولى النظام السوري الأسدي ،بعد ذلك، إنهاء الوجود الفلسطيني المسلح في البقاع والشمال،ثم ما لبثت أن اضطُرّت إسرائيل للانسحاب من معظم الأراضي التي اجتاحتها تحت وطأة هجمات المقاومة الوطنية،لتستقرّ أخيرا في الشريط الحدودي، وكان على حزب الله أن يتقدم لبسط سلطته على الجنوب الذي تسيطر عليه، بعد الإنسحاب الإسرائيلي حركة أمل، ممّا استدعى صدامات عسكرية بين الطرفين، ومناكفات واعتقالات واتفاقات أفضت مشارف التسعينات للاعتراف بوجود الحزب على أرض الجنوب بكامل عدّته العسكرية ليبدأ حرب تحرير الشريط الحدودي من أيدي العدو الصهيوني.
ثالثاً: الإفلات من ملزمات اتفاق الطائف..
أنهى اتفاق الطائف الذي أقرّه مجلس النواب اللبناني فصول الحرب الأهلية في لبنان، وأرسى من جديد دعائم الدولة التي استعادت شرعيتها وسيادتها، عبر توحيد القوى العسكرية الشرعية، وحلّ الميليشيات وتسليم أسلحتها الثقيلة للجيش ، واستيعاب عناصرها في القوى الأمنية وإدارات الدولة، وإذ بات على هذه الدولة أن تضطلع بمهام تحرير الأرض المحتلة، وتحتكر شرعية حمل السلاح وقرار الحرب والسلم، إلاّ أنّ ما حال دون ذلك، كان التلاعب الدائم لسلطة الوصاية السورية في تحديد مصير لبنان وسيادته، وهذا التلاعب أفضى إلى التنازل عن كل ذلك،ليجري "تلزيم" التحرير لحزب الله، وتوفير المستلزمات الضرورية لذلك، من عتاد وأسلحة، بما فيها الصواريخ، وتمويل ، وإضفاء شرعية مكتسبة من شعارات المقاومة والتحرير والعداء للصهاينة ومساندة القضية الفلسطينية، وقد أدى ذلك إلى إرساء دولة ناشئة في حضن الدولة الشرعية، تقتاتُ من لحمها وتتطاول على هيبتها وسيادتها،منذ اتفاق الطائف وحتى يومنا هذا.
رابعاً : الحرب السورية والعقوبات الدولية..
بعد حرب تموز واكلافها الغالية، دخل حزب الله في أتون الحرب السورية منذ أكثر من ثلاث سنوات، مناصراً لنظام بشار الأسد، وأسفر هذا التدخل العسكري الواسع عن احتجاجات عديدة في الداخل والخارج، ونسبّب ذلك بتعكير العلاقات اللبنانية العربية، وخروج لبنان أكثر من مرة على الإجماع العربي، ممّا أدّى إلى عقوبات عربية طالت الدولة والمواطنين على حدٍّ سواء.
إلاّ أنّ العقوبات المالية الأميركية هي التي تفتح اليوم الملف القديم والشائك: أين حدود الدولة التي باتت متهالكة، وحدود الاستباحة المتمادية لدولة"المقاومة" الناشئة؟
من اجتياز الحدود، إلى إعلان الحروب، إلى تعطيل انتظام المؤسسات الدستورية، وفي مقدمتها انتخاب رئيس للجمهورية، وأخيرا وليس آخرا تعطيل الإلتزام بالإجراءات المالية الأميركية التي لا يمكن التملّص منها، ممّا اضطرّ حاكم المصرف المركزي أن يُذكّر الجميع بأنّه حاكم مصرف لدولة ذات سيادة مفترضة، وهو مُلزم بالحفاظ على مصالحها ومصالح مواطنيها.
أمّا من يحُلّ إشكاليات الدولة والثورة؟ فلربما علينا العودة مائة عام لنقرأ ما كتبه لينين عن الدولة والثورة، لعلّنا نجد وصفة ناجعة لما نعانيه اليوم بين شرعية الدولة، والقيام بمهام "الثورة" التي صار اسمها "مقاومة"، وقد أزفت ساعة استحقاق الخروج المتمادي على الدولة والمؤجّل من ربع قرن حتى يومنا هذا.