لم يكن ينقص اللبنانيين حتى يكتمل «النقل بالزعرور» إلا هذا التوتر بين مصرف لبنان المركزي و«حزب الله»، على خلفية الإشكالات التي تسببها الإجراءات الأميركية لتطويق تمويل الحزب، تحت شعار مكافحة تبييض الأموال والتجارة بالمخدرات!
الواقع أن هذا الملف يحتاج إلى معالجة هادئة يتغلب فيها التعقل على الانفعال، ويتقدم فيها التخطيط والتعاون والتفاهم على كل أنواع الارتجال.
المسألة أكبر من معايير السياسة المحلية الضيّقة، وأكثر جدية من مناورات وحرتقات الخلافات الداخلية.
ومن المضحك فعلاً، أن يُقارن قرار الكونغرس الأميركي بالنسبة لتمويل «حزب الله» بالقرار الذي اتخذته حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في 5 أيار عام 2008 بالنسبة لشبكة اتصالات الحزب، والتي ردّ عليها الأخير باجتياح بيروت، بعد اعتصام في الوسط التجاري دام سنة وبضعة أشهر!
القرار الأميركي تحوّل إلى تدبير عالمي تلتزم به المصارف الدولية الكبيرة ومنها الصغيرة، تحت طائلة اتخاذ عقوبات مالية موجعة في حق البنوك المخالفة.
وإذا علمنا أن الهيمنة الأميركية على النظام المصرفي العالمي، فرضت على أكبر البنوك الأوروبية والسويسرية بالذات، غرامات بمئات الملايين من الدولارات، لمخالفات من نوع تهريب ودائع لمواطنين أميركيين، تحايلاً على الأنظمة الضريبية الأميركية، لأدركنا مدى حساسية القرار الأميركي الجديد في الأوساط المصرفية العالمية، التي لا تستطيع التفلت من تبعات هذا القرار وإجراءاته!
* * *
التزام المصارف الدولية بتنفيذ مضمون الإجراءات الأميركية ضد تمويل «حزب الله»، يضع المصارف اللبنانية أمام خيارين لا ثالث لهما:
{ الأول: مجاراة المصارف الدولية بتطبيق مجريات القرار الأميركي والذي اتخذ طابع القانون الصادر عن الكونغرس، بما في ذلك إقفال حسابات مؤسسات وشخصيات تابعة للحزب أو تتعامل معه، ووقف المعاملات المصرفية ذات الصلة، بغية الحفاظ على سلامة علاقاتها مع المصارف الخارجية، والالتزام بالمقتضيات المهنية المصرفية، التي تميّز القطاع المصرفي اللبناني عن مثيلاته في كثير من الدول النامية.
{ الثاني: عدم التقيّد بتنفيذ مضمون الإجراءات الأميركية، وخوض مغامرة تعريض النظام المصرفي اللبناني لمخاطر الحصار والعزلة الدولية، من خلال وقف تعامل البنوك الخارجية مع المصارف اللبنانية، الأمر الذي يشل حركة الحوالات والاعتمادات العائدة للبنوك اللبنانية، فضلاً عن حتمية تعرضها لعقوبات أميركية صارمة، تُهدّد قدرة بعض المصارف على الاستمرار.
بين هذين الخيارين، كان من الطبيعي، وبالمنطق الوطني السليم، أن يشجع البنك المركزي المصارف اللبنانية على تطبيق مجريات القرار الأميركي، تجنباً لأي استهداف للقطاع المصرفي اللبناني، وحفاظاً على مصداقية ومكانة المصارف اللبنانية، وبعضها يتصدر لوائح إقليمية وعالمية من حيث الملاءة وجودة الأداء!
* * *
الإجراءات الأميركية، إذاً، ليست مزحة، ولا تنفع أساليب التشاطر والتطاول والترهيب في معالجة ذيولها وتداعياتها، على نحو ما ورد في بيان نواب الحزب ضد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
ولا بدّ من التذكير، بأن ثمة دولاً بارزة، إيران في مقدمها، تعرّضت لعقوبات مماثلة، ولم تستطع الإفلات منها، أو تجاوزها بسهولة، من دون أن يتأثر اقتصاد تلك الدول وعملاتها الوطنية.
لذلك، فمن الخطورة بمكان، بل المسألة تصل إلى حدّ التهوّر والانتحار الجماعي في حال تحويل مضاعفات الإجراءات الأميركية إلى معركة داخلية بين الحزب والقطاع المصرفي، وعلى رأسه البنك المركزي، وحاكمه الذي استطاع حتى الآن، بقدرة قادر، أن يعزل هذا القطاع الحيوي عن الوضع السياسي المضطرب، وعن حالة عدم الاستقرار السائدة في البلد، والتي يحمل كثيرون أسبابها لحزب الله، ومواقفه المحلية والإقليمية.
ليس من المبالغة، القول إن أي اهتزاز في القطاع المصرفي، يعني ضرب الاستقرار النقدي، واستهداف القاعدة الوحيدة والأخيرة، التي يرتكز عليها الاقتصاد الوطني، بعد تعطيل حركة الصادرات الزراعية والصناعية، والتراجع المتزايد في الحركة السياحية، وخروج المستثمرين العرب من السوق اللبناني، وتردد المغتربين اللبنانيين في الاستمرار باستثماراتهم في الوطن الأم، بعد هذا التصدّع في بنيان الدولة، بسبب الشغور الرئاسي المعيب.
بقي أن نقول إن مصير الأكثرية الساحقة من اللبنانيين يتوقف على سلامة القطاع المصرفي، الذي تحوّل إلى ما يشبه القلب في ضخ السيولة إلى مختلف أطراف المجتمع اللبناني، في ظل هذه الضائقة الاقتصادية المتفاقمة، والعامل الأول في استمرار هذا الاستقرار النقدي!
فهل تتغلب الحكمة، ولو لمرة، على الانفعال والارتجال؟!
صلاح سلام: اللواء