قصة العقوبات على حزب الله قديمة قدم تأسيس هذه المنظمة في منتصف الثمانينات حين فرضت عقوبات على قطاعات الحزب الذي إتهم بقيامه بعمليات إرهابية حسب التوصيف الأميركي ضد القوات الأميركية والفرنسية في بيروت إضافة لعمليات الخطف التي شهدتها بيروت في أواخر الثمانينات. كانت هذه أول صفحة من صفحات العقوبات الأميركية، لم تكن مؤثرة كثيرا حينها بسبب طبيعة النظام المالي العالمي السائد في تلك الحقبة والقائم على ثنائية الإتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية، أضف إلى أن قطاع التكنولوجيا المالية والمصرفية من تحويلات وبطاقات إئتمان وغيرها لم تكن على مستوى التطور الواقع اليوم فحينها كان " الكاش " هو الوسيلة الأفضل لتبادل الأموال وكانت العمليات المالية تتم بعيدا عن انظار اجهزة الرقابة المصرفية المحلية والعالمية فكان من السهل تحويل الأموال والإستفادة من إتساع السوق السوداء لتبادل العملات.
صفحة ثانية من العقوبات المالية:
تعرض حزب الله لموجة ثانية من العقوبات منذ التسعينات الى اوائل سنوات هذا القرن، كانت التهمة أيضا الإرهاب ولكن هذه المرة كان الدافع لهذه العقوبات هي الهجمات والعمليات التي قام بها في جنوب لبنان ضد إسرائيل، فكانت الأخيرة السبب الرئيسي وراء معظم هذه العقوبات. أيضا، لم تكن مؤثرة هذه العقوبات، لأنه في اوروبا جرى تمييز بين جناحي الحزب العسكري والسياسي ففرضت عقوبات مالية على الجناح العسكري وتم تجاهل الجناح السياسي. وزيادة على ذلك، كان لدى الحزب عمق عربي مهادن له لا يعتبره إرهابي مع ما يترتب على هذا التصنيف من إجراءات قانونية تضيق الخناق عليه كما يحصل اليوم في الصفحة الثالثة من العقوبات المالية.
هذه الصفحة صعبة ومؤلمة :
منذ مشاركته في القتال السوري، تغيرت النظرة العربية سواء شعوب أو دول نحو الحزب. هنا لا ننكر أن ثمة صدام كان موجودا بين السعودية وحزب الله قبل الدخول الى سوريا لكن حينها كان الصدام ذات سقف محددة كانت لا تمنع حينها حزب الله بتشكيل وفد برئاسة نائب الأمين العام نعيم قاسم للذهاب إلى السعودية فالخطوط الحمر كانت محترمة من الطرفين.
اليوم سقطت هذه الخطوط خصوصا بعد الأزمة اليمنية ما أدى الى تصنيف الحزب عربيا وخليجيا على أنه منظمة إرهابية مع تحفظ ورفض 3 دول .
هذا التصنيف يوجب على الدول العربية والخليجية أن تراقب حركة التدفقات المالية من وإلى لبنان. فالإشتباه بوصول أموال إلى حسابات منظمة مصنفة بنظرهم إرهابية تضع صاحبها تحت الملاحقة القانونية. وهنا لا بد من أن الجميع سواء المتضامن أو المؤيد لسياسات الحزب سيصاب بالهلع والخوف من خسارة أمواله فسيتجنب إرسال تبرعات ومساعدات من دول العالم العربي خوفا من تعرضه لعقوبات كالطرد أو الحجر على أصوله وممتلكاته. وإنطلاقا من هذه النقطة بالتحديد، خسر حزب الله مداه الإقليمي المالي، وهو عامل أساسي من عوامل منظومته المالية. حوصر حزب الله عربيا، ولكن لم تقف الأمور هنا، كانت هذه صفحة ثالثة فقط من كتاب العقوبات المالية تمهد للرابعة والأقسى.
الصفحة الرابعة.... أقسى وأوجع:
يوجد مثل في عالم الأعمال والإقتصاد يقول:
" الرأسمال جبان" بمعنى أن الإنسان يتساهل بكل شيء بإستثناء أن تقترب من جيبته، والأميركيون يدركون ذلك فلهم باع طويل بعالم الأعمال والاموال، ويعرفون كيف يسيرون العمليات ويحددون الأوقات لفرض العقوبات وكيف يجنون الثمار.
قانون العقوبات المالية الذي أقره الكونجرس الأميركي لفرض عقوبات شاملة وواسعة على جميع قطاعات حزب الله في العالم هو مفهوم ويفهمه حزب الله . لكن ما إلتبس وأخاف العالم وحيرهم هو موقف المصرف المركزي بشخص حاكمه رياض سلامة وإجتهاده لتطبيق القانون، والسؤال هو : هل حقا حزب الله لا يفهم تصرفات رياض سلامة ومبرراته القانونية؟ أو أنه عمدا لا يريد أن يفهمه لشدة وطأة هذا القانون على المجتمع الشيعي بالأخص؟ فالقانون " خبيث" و " مميت" ولو أنه غير ذلك ما كنا لنجد هذا الإستنفار البرلماني والديبلوماسي لحزب الله على خط فرملة إندفاعته وما كنا لنسمع هذه الإتهامات لحاكم المصرف من قبل الحزب بعد إعلانه إغلاق 100 حساب لحزب الله في المصارف اللبنانية.
القانون الأميركي يلحظ فرض عقوبات وإيقاف أي حساب له علاقة بحزب الله وهذا لا يعني فقط التعرض لمؤسسات الحزب الإعلامية والعسكرية والإجتماعية والثقافية والدينية والتعليمية بل التعرض لبيئة الحزب نفسه، ومن هنا قساوة الموضوع وإختلافها عن الصفحات السابقة. لذلك يطبق الأميركي نظرية:" الرأسمال جبان" لإختبار بيئة الحزب والتضييق عليها لتثور عليه لاحقا. فالحصار الأميركي دخل على بيئة حزب الله الذي تشكل له نقطة قوة ونقطة ضعف في آن في حال نجحت السياسة الأميركية في هذا الشأن.
هل يفرط رياض سلامة بالسيادة الوطنية:
الحركة المالية للدولة اللبنانية كغيرها من دول العالم تتبع لشروط ومحددات يأتي في طليعتها الموجبات التي يفرضها القانون الأميركي. فحركة الدولار في أي منطقة في العالم لا بد أن تمر عبر بورصة نيويورك في وول ستريت لتعبر إلى وجهتها. أضف أن الدولة اللبنانية وخصوصا مجلس النواب ملتزم بالقرارات الدولية وموقع على الإتفاقيات التي تعنى بالضرائب ومكافحة تبييض الأموال والمخدرات، وهذه الموافقة أتت إيمانا وتسليما بالقيم والشروط الأميركية الحاكمة في العالم. فالإقتصاد الأميركي لوحده يمثل ثلث إقتصاد العالم وبالتالي تأثيره واضح وطبيعي في مجريات العمليات المالية وتأثيره على السياسات النقدية والمالية. فالعالم اليوم على الصعيد النقدي هو عبارة عن دورة مالية مرتبطة قلبها نيويورك وأي اموال خارج هذه الدورة هي اموال غير قانونية وغير شرعية تكون مصادرها الجريمة المنظمة والمخدرات. فلكي تدخل هذه الاموال الى داخل هذه الحلقة، تلجأ المنظمات ورجال الاعمال إلى تبييض الأموال للإحتيال على النظام العالمي المالي. فمفهوم السيادة النقدية لا يعترض مع الإجراءات الدولية لأنه سبق للمصرف المركزي ومجلس النواب أن وقع إتفاقيات نقدية ومالية دولية. والبنك الدولي الذي يؤمن قروضا مالية للبنان لا يعطي هذه القروض إلا بناءا على هذه الإجراءات والإتفاقيات.
في عالم الأموال والنقد تختلف السيادة عن ما هو معروف عنها بالجغرافيا والحدود، ففي الأولى هي عالم منفتح يتجه نحو إزالة جميع العراقيل التي تحد من حركة تدفق الأموال.
ولذلك يدرك حزب الله هذا الكلام ويدرك أن سلامة يطبق القانون ولا يخالفه ويدرك حجم المخاطرة التي سيتعرض لها القطاع المصرفي في لبنان في حال عدم التقيد بالقانون الأميركي، وأقرب مثال الإفلاس الذي تعرضت له اليونان.
بعض المصارف بدأت تطبيق القانون كبنك لبنان والمهجر الذي أوقف جميع حسابات نواب ووزراء حزب الله. كذلك تم ايفاف حوالي 100 حساب مصرفي لحزب الله. ومعلومات عن لائحة جديدة ب 3000 شخص ومؤسسة. القانون يلحظ أي مؤسسة وجمعية ومورد يتعاطى مع مؤسسات وشخصيات تابعة للحزب ما يشكل ضغطا إضافيا.
شبه إتفاق بين الحزب والمصرف:
تم الإتفاق على ان تكون هيئة التحقيق في المصرف المركزي الجهة المخولة مراجعة وتدقيق الحسابات المصرفية بمدة 30 يوم وأن لا تتصرف المصارف بتفرد. لكن بعض المصارف تنفرد في هذا الأمر كبنك لبنان والمهجر وجاء إعلان سلامة مدويا في هذا المجال عندما أعلن إقفال الحسابات المئة لكن تسربت معلومات اليوم عن أن التوصل لاتفاق بعدم اقفال الحسابات بالليرة اللبنانية والإكتفاء باقفال حسابات الدولار الأميركي.
أما أميركيا فيجري العمل على قانون جديد يفرض على أوروبا اعتبار كل أجنحة الحزب إرهابية، وفي حال إنصاعت أوروبا للأوامر الأميركية فهذا يعني تضييق الخناق أكثر على الحزب في آخر فسحة يستطيع أن يناور فيها.
أربع صفحات في كتاب العقوبات، فهل يحرج الحزب أمام بيئته فيخرج؟ أو يضغط بإتجاه التلويح بسحب ودائع الشيعة التي تقدر بحوالي 50 مليار $ من المصارف اللبنانية؟
بإنتظار الصفحة الخامسة وما تحمل.