ما كان متصوًرا أن يمر كلام وزير الداخلية اللبناني، الصديق نهاد المشنوق عن السعودية مرور الكرام. اختلط في أقواله في تلك المقابلة التلفزيونية، سقف المراجعة لتجربة محددة هي تجربة ما يسمى «السين سين»، بسقف انتقاد صاحب المبادرة، المغفور له الملك عبد الله بن عبد العزيز.
من يعرف السعوديين، ونهاد يعرفهم، يعرف أنهم لا يستسيغون التعرض لملك البلاد، فكيف إذا كان هذا الملك هو «أبو متعب»، الذي قال عنه نهاد يوًما إنه لو قدر للسعوديين أن ينتخبوا ولي أمرهم لانتخبوا عبد الله بن عبد العزيز. ليس المجال هنا لمراجعة الأسباب الموجبة لموقع الملك عبد الله في وجدان السعوديين ومكانته في تجربة الارتقاء ببلاده وأهلها وطلابها ونسائها ومؤسساتها.
لست أجيد الكتابة في هذا المجال، الذي أعرف عنه بعين المراقب البعيد وليس المعايش عن كثب، وعبر ما تواتر وليس ما اختبر! أعرف أن للسعوديين حساسية إضافية، حيال أي كلام، يُشتم منه تقرب من عهد بانتقاد سلفه، وهم شديدو الاشتباه، حتى حين لا يكون للشبهة أساس، وأزعم أنها في حالة حديث نهاد، لا أساس لها في منطقه وخلفياته وأهدافه.
فالمفارقة أنه يكاد يكون السياسي الوحيد الذي ينتقد في لبنان لضدين، فيحسب ظلًما على مجموعة مهادني «حزب الله»، ويُعاب عليه في الآن عينه قربه وتقربه من «مناخ الحزم» السعودي، بحيث تحسب عليه كل خطوة وكلمة وموقف وكأنها تجميع أوراق في هذا الاتجاه، ومنها المقابلة الأخيرة!
أخطأ نهاد المشنوق، بلا شك، في الشكل الذي اختاره لمراجعة واحدة من أدق اللحظات السياسية على المستوى الوطني اللبناني وعلى المستوى العربي، وهي زيارة، بل زيارات، الرئيس سعد الحريري الأربع إلى دمشق ضمن مبادرة عربية (وإقليمية إذا حسبنا الدور التركي آنذاك عبر مبادرة موازية بالشراكة مع قطر) قادها الملك عبد الله ساعيًا من خلالها لاستعادة سوريا من حضن إيران.
غلبه في التلفزيون مزيج مؤٍذ من فائض الوجع على ما آلت إليه الأوضاع اللبنانية، وهو كثير الحديث عنها هذه الأيام، وفائض ما تستدرجه الشاشة من كلام ليس للدقة فيه مكان فسيح.
خرجت الرواية في صيغة الإدانة، رغم أن الرجل امتلك شجاعة إيضاح ما قصد وما لم يقصد. أخطأ في الشكل أكثر مما أخطأ في المضمون، وتحديدًا في الكلام الحقيقي عن الأثمان الكبيرة التي ترتبت على الرئيس سعد الحريري جراء زيارات سوريا، والتي قبل نجل رفيق الحريري أن يقوم بها ولم تفرض عليه، إدراًكا منه أن لبنان لا يحتمل أن يكون معرقلاً لخطوة عربية كبيرة تهدف لاستعادة سوريا من حضن إيران!
وللتاريخ فإن المغفور له الملك عبد الله حاول لعقود طويلة، أميًرا وملًكا، أن يستعيد سوريا ولم يحبطه الفشل المتكرر؛ لا في العام 1982 حين حاول إجراء مصالحة بين حافظ الأسد وصدام حسين وتعديل موقف دمشق من حرب الخليج وحرمان إيران من حليفها العربي الأبرز (إلى جانب ليبيا معمر القذافي) ولا لاحقًا في العام 1987 حين حاول مجددًا بين دمشق وبغداد ونجحت جهوده في جمع صدام والأسد في الأردن بضيافة المغفور له الملك حسين بن طلال، وأثمرت لشهور قليلة قبل أن تذوي هي الأخرى!
أميل للاعتقاد أن الحريري قبل المغامرة من دون أمل كبير بنجاحها، لكنه أراد لها، إْن فشلت، أن تفشل لأسباب سورية وليس حريرية، وإْن نجحت أن يكون قد افتدى لبنان ولم تذهب دماء أبيه سدى!
أما البقية، فمعروفة للجميع. قبل الحريري بكثير زار رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة دمشق، بعد الاغتيال الكبير، ولم تثر زيارته ما أثارته زيارة الحريري، وهو كان يتهيأ لزيارتها ثانية خلال أقل من سنة لولا تصريح في مقابلة أجريتها معه في واشنطن على شاشة «الحرة» قال فيه «لن أستجدي زيارة دمشق»!
إلا أن ما ينطبق على السنيورة لا ينطبق على الحريري، حيث مربط الزعامة الفعلية لُسنة لبنان وما يتجاوزهم. دعك عن أن الزيارات الأربع أعقبتها تصريحات للحريري جاءت بمثابة تبرئة لنظام الأسد من جريمة اغتيال الحريري على قاعدة أن اتهام سوريا كان «سياسيًا»! هذا ثمن اختار الحريري أن يدفعه ساعيًا لتجنيب بلاده «ما علمنا وذقنا».
لكنه، في الوقت نفسه، سياق ترك ندوبًا عميقة على جسد زعامة الحريري الذي ما كان ليبادر ولا كان بوسعه أن يبادر لولا الحاضنة العربية الكبيرة لهذا «الاختبار» الصعب.
لا مفر من الاعتراف أنه لطالما كان الإمساك بلبنان، مشروًطا بالإمساك بالُسنة أو تحييد زعامتهم السنية اللبنانية. بين العامين 1958 و1994 ،أُمسكت الطائفة مراًرا، إما من قبل جمال عبد الناصر، وياسر عرفات عربيًا، وإما كمال جنبلاط داخليًا!
أُمسكت، وأُلغيت أو أديرت خارج مدارها اللبناني. كان على الُسنة أن ينتظروا حتى رفيق الحريري لتعود الطائفة إلى فعاليتها اللبنانية ومن دون أي قيد أو شرط سعودي. الزعامة السنية اللبنانية السليمة هي أساس سلامة النصاب الوطني في لبنان! درس مكلف يعرفه تماًما من اغتال رفيق الحريري ومن لم تهدأ محاولاته لاستنزاف سعد الحريري!
(الشرق الأوسط)