بعد سقوط بغداد في العام 2003 وقيام نظام المحاصصة في العراق وشيوع التمذهب في كل المنطقة، حدث أن كنت أشاهد قناة عراقية ولفتني أن أحد المتدخلين قال إنه يجب التوقّف عن الحديث في السياسة واستعراض مواقف هذا الطرف وذاك، فما يجب أن يهمنا هو التشيّع وما غير ذلك عرضي زائل.
لم أفهم هذا التدخل التلفزيوني العارض إلا بعد ملاحظة أن التشيّع ورشة تنهلُ همّتها من زاد تاريخي عتيق، لكنه يجد صداه، برعاية دولة الوليّ الفقيه، في الجغرافيا أيضا، حيث ينشط التشيّع كقضية واجبة أينما وجد الشيعة. لكن أمر ذلك لا ينحصرُ في الكتل الشيعية التي تتوارث المذهب بيولوجيا، بل إن التبشير به بات عملا تقوم به مراكز طهران “الثقافية” في السودان ومصر والمغرب وتونس والجزائر، كما في أفريقيا وأي أصقاع بعيدة تطالها سفارات الجمهورية الإسلامية.
والتشيّع ليس مشروعا شيعيا بالمعنى الديني الفقهي، بل هو مشروع سياسي ترعاه طهران، وهدفه جرّ الشيعة في العالم إلى الانصهار في هوية وحيدة واحدة لها عنوان واضح وزعامة جلية. وعلى هذا أرادت طهران تحويل الشيعة إلى كتلة ديموغرافية تدور في فلكها وتغذي استراتيجياتها، بحيث تصبح لكل شيعي في الأرض “قضية” ومظلومية يشاركه فيها شيعة الأرض جميعا. فأما وأن للزمان صاحبا فنائبه الولي الفقيه يسود أمة تواليه دون غيره في القول والعمل.
للأكراد أيضا نزوع أممي عابر للحدود التي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة. مرّ قرن على ذلك التفاهم البريطاني الفرنسي (وتواطؤ من روسيا القيصرية) الذي أدى إلى تقسيم تركة السلطنة العثمانية في المشرق. منّى الأكراد النفس بدولتهم الوطنية، لكن الإرادة الدولية لم تسمح بذلك، فيما تولت الإرادات الإقليمية خنق أي تعبيرات كردية بهذا الاتجاه.
يتقاسم أكراد المنطقة ذاكرة واحدة ومظلومية واحدة. في ذاتهم العميقة شعور بالغبن معطوف على مرارة من خيانة ارتكبتها المنطقة شعوبا وحكاما. وحتى حين نمت داخل الكتل الشعبية والاجتماعية الكردية نزوع نحو أممية تتجاوز قوميتهم وترتقي عنها، فإن السلطات العربية والتركية والإيرانية تولّت، بالجملة والمفرّق، ممارسة تمييز يذكّر من حاول أن ينسى كرديته بأنه كردي الهوية واللغة والتاريخ والثقافة والمعاناة.
للأكراد “قضية” يدافعون عنها ويتشاركون في التصريح بها. ولئن تباينت تجارب أكراد تركيا عن تجارب أولئك في إيران وسوريا والعراق، إلا أن قاسما قوميا مشتركا يوحّد الجميع في توسّل لا يكلّ لاستقلال ما على طريق الاستقلال الكبير. صحيح أن للأكراد مرجعيات محلية، إلا أن وعيا جماعيا يعتبر أكراد تركيا وحراكهم (بي كا كا) وزعيمهم (عبدالله أوجلان) القبلة الأولى لهم. ولا عجب من أن حراك الأكراد هذه الأيام يتقرر في جبال قنديل، حيث تلوذ قيادة حزب العمال الكردستاني بقيادة زعيمهم في سجون تركيا عبدالله أوجلان.
قبل أيام نقل تقرير للغارديان البريطانية عن أحد المقاتلين العرب المنشقين عن “قوات سوريا الديمقراطية” أن هذا الفصيل الذي ترعاه الولايات المتحدة، والمفترض أن يكون خليطا ما بين عرب وأكراد، باتت تهيمن عليه قوات كردية وافدة من جبال قنديل في شمال العراق. وبهذا المعنى نستنتج أن في المنطقة مشاريع حان قطافها، وأن الأكراد يشعرون بأنهم يدنون من “لحظتهم” التي لا تستثني كرديا في المنطقة برمتها، على ما يستدعي استنفار جهد عسكري كردي من جميع مواطن “الشتات” إذا جاز التعبير.
هي لحظة يستشعرها مشروع التشيّع بالنسخة التي تصدرها طهران. ومن أجل ذلك الهدف السامي يتحرّك شيعة الوليّ الفقيه حاملين أكفانهم باتجاه البوصلة التي يحددها الولي الفقيه في الفلوجة والموصل، أو في الرقّة وحلب. ومن أجل ذلك المنتهى الميثولوجي يحجّ شيعة حزب الله وجماعات الهزارة الأفغان، كما حوثيي اليمن وجماعات الجهاد الحسيني في العراق. وفي مقابل تلك القضيتين، قضية الشيعة وقضية الأكراد، وربما تكاملاً معهما، يحمل تنظيم داعش قضية ثالثة.
يحصد تنظيم البغدادي مظلومية نادرة يشعر بها سنّة المشرق. فإذا ما كان السنّة يشكّلون 90 بالمئة من المسلمين في العالم، فإن مشاعرَ الغبن جديدة على تاريخهم وتمثّل علّة سريالية نادرة لا تصيب الأغلبيات عادة. يروج التنظيم ويتعملق داخل بيئات حاضنة. وعليه فقد تعملق أولا في العراق قبل أن “يتمدد” صوب سوريا. لم يظهر التنظيم في اللحظات التي تلت سقوط بغداد عام 2003 ولا في تلك التي تلت “هبّة” درعا عام 2011، بيد أن عواصم المنطقة، بداية من بغداد ودمشق، مرورا بعواصم الحلفاء والخصوم، جهدت لتشييد تلك البيئة الضرورية لعيش وبقاء التطرف في نسخاته الحديثة.
لا تستقيم “قضية” داعش ولا يتصلب عودها. يرفع التنظيم شعار الدفاع عن “أهل السنّة” بالمعنى الأممي الذي يوحي به منطق الأمة في الإسلام، لكن مفاعيله لا تتجاوز حدود “العرب السنّة”، فقلما تجد له علامات داخل النسيج الكردي في المشرق أو ذلك الأمازيغي في المغرب. ثم إن عداوته للشيعة (الرافضة حسب تعبيرات داعش) تصطدم مع تناقض ذلك مع خطوط جبهاته وأولويات مقاصده، كما تتعارض مع وجهاته التي قادته بعد سقوط الموصل إلى الابتعاد عن بغداد (المفترض أنها عاصمة الحكم الشيعي بحسب أدبياته) والتوجه نحو إقليم كردستان شمالا.
لا طائل من التذكير بكمّ الضحايا السنّة الذين سقطوا على يد داعش عقابا لهم على عدم صفاء إيمانهم وفق رؤى “الخليفة” وقومه. ولا طائل من التذكير بالصدام ما بين تنظيمي داعش والنصرة بصفتهما يمثّلان أقسى درجات العصبية المدافعة عن السنّة في المنطقة. ولا طائل من التذكير بالتواطؤ الخبيث بين تنظيم البغدادي ونظام دمشق في استهداف المعارضة السورية، بصفتها عدوا مشتركا أكيدا للطرفين والمنطقين. ولا طائل من استعراض مشهديات التوحّش التي برع داعش في تقديمها مضمونا وشكلا وتوزيعا تنفيرا لعامة السنّة. وفي أداء التنظيم وسلوكياته ما يوحي بأن ورشة داعش و“قضيته” لا تخدم عمليا إلا قضيتي التشيّع واستقلال الأكراد.
اكتسب الحوثيون في اليمن “تفهما” دوليا بقيادة واشنطن بسبب كونهم يتقدمون بصفتهم ندا معاكسا مهددا لتنظيم القاعدة (توأم داعش) و“قضيته” في اليمن. تمكّن حسن نصرالله الأمين العام لحزب الله، من تسويق “جهاد” قوات الحزب في سوريا دفعا للتطرف الذي يحمله داعش في نصوصه. باتت إيران شريكة للتحالف الدولي في الحرب ضد داعش وبات الجنرال قاسم سليماني رمزا من رموز المكافحين ضد الإرهاب في العالم، شأنه في ذلك شأن جنرالات الأطلسي المشرفين على الجهد الأممي في هذا الشأن.
لكن المثال الأكبر يظهر في الحالة الكردية. لم تتحرك آلة الولايات المتحدة الرادعة إلا عندما اقتربت قوات داعش من خطوط التماس في كردستان العراق وفي كوباني-عين العرب في سوريا. بدت “قضية” داعش تتقدم موفّرة اللحظة التاريخية النادرة لأكراد المنطقة. راح رئيس إقليم كردستان، مسعود بارزاني، يلّوح من جديد بالذهاب نحو الاستقلال، فيما أكراد سوريا المتحدّرين من تجربة الأوجلانيين في تركيا يرسمون برعاية روسية أميركية نادرة حدود طموحاتهم الجغرافية. ومقابل الوعيد الذي كرره الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ضد تحرك قوات حماية الشعب الكردية شمال سوريا، بدت أنقرة في الأيام الأخيرة “متفهمة” متعذّرة بمعلومات أميركية عن عربية القوات في منبج، مرحبّة بمعركة الموصل المقبلة.
على ذلك تبدو “قضية” داعش في بعديها الجهادي والمؤامراتي تمرينا لدفع قضيتي الأكراد والتشيع نحو آفاق متقدمة تختلط داخلها مصالح أصحاب القضايا بمصالح أصحاب المصالح في العالم.
العرب: محمد القواص