يغري العرض الذي قدمه القائد السابق للحرس الثوري الإيراني محسن رفيق دوست للعراقيين، بأن تساعد طهران في تحويل فصائل الحشد الشعبي (الشيعي) حرساً ثورياً عراقياً، في دفع هذه الفكرة إلى الأمام أكثر، بحيث يسع المرء تصور مآلات الدول المرشحة لمثل هذه العروض من جانب طهران، لا سيما أن ثنائية المرجعية العسكرية هي النموذج الذي استعانت به إيران لحل معضلة العلاقة غير المتكافئة بين المرشد المطلق الصلاحيات، والحكومة المقيدة بمهمة إدارة الأعباء الناجمة عن تركز هذه الصلاحيات بيد المرشد.
قد يبدو العرض الإيراني للعراقيين غير عملي إذا ما أراد المرء أن يقيسه بحسابات الواقع، إذ ربما اعتقدنا أن البنية الاجتماعية والمذهبية والقومية العراقية تقف حائلاً دونه، وهذا اعتقاد خطأ، ذاك أن "الممكن" في الحسابات الإيرانية أمر مختلف عما نعتقده ممكناً. تولي قاسم سليماني مهمات على جبهة الفلوجة خطوة ما كانت ممكنة لو أن ما نعتقده منطقاً وممكناً يعتقده سليماني. الجواب الوحيد على الذهول الذي خلفته مسارعة سليماني إلى الفلوجة جاء من وزير الخارجية العراقي إبراهيم الجعفري عندما قال أن سليماني هو مستشار عسكري للحكومة العراقية، وهو جواب غير ممكن إذا ما تم إخضاعه لمنطق العلاقة بين الدول حتى في ذروة استتباع واحدة لأخرى. وجواب الجعفري يمضي أيضاً إلى بواكير ترحيب عراقي بالعرض الإيراني، فأن يكون قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني مستشاراً للحكومة العراقية، فإن نصف الطريق إلى قبول العرض الإيراني قد قُطع.
لكن دفع العرض الإيراني خطوة إلى الأمام لا يهدف إلى قصر التخيل على الوضع العراقي، فتحويل الحشد الشيعي العراقي إلى حرس ثوري يبدو أنه بدأ يتفاعل هناك. ولكن ماذا عن لبنان مثلاً؟ ماذا لو تلقى لبنان في مرحلة أخرى عرضاً إيرانياً مشابهاً؟ فالمدقق بالواقع اللبناني وبعلاقة "حزب الله" بالحكومة اللبنانية وبالأجهزة الأمنية اللبنانية سيكتشف أن مسافة طويلة قد قُطعت في هذا الطريق أيضاً، و"حزب الله" هو الشقيق الأكبر في هذه العلاقة تماماً كما هو الحرس الثوري شقيق أكبر في علاقته بالجيش الإيراني. ومثلما هو المرشد صاحب القرار في هذه العلاقة في الحالة الإيرانية، ثبُت أن مرشداً لبنانياً وآخر إيرانياً هو صاحب القرار في الحالة اللبنانية. هو تشابه لا تُضعفه الجغرافيا ولا التفاوت في التركيبة الاجتماعية بين البلدين.
لكن إشغال الخيال يبقى ضرورياً طالما أننا في لبنان ما زلنا نمارس نكراناً، هو وسيلتنا الوحيدة لالتقاط الأنفاس. وهنا علينا أن نتخيل أن "حزب الله" عاد من سورية بعد حصول تسوية هناك. والمهمة التي يطرحها خصوم "حزب الله" قبل حلفائه على أنفسهم هي: كيف يمكن استيعاب الحزب مهزوماً أو منتصراً بعد عودته من سورية. في هذا السياق مثلاً، برر سعد الحريري خطوة ترشيحه سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، أي عبر رئيس قريب من الحزب يتولى مهمة طمأنته واستيعابه.
في هذه اللحظة، يجب أن نكون مستعدين لعرض إيراني مشابه للعرض الذي قُدم للحكومة العراقية. أي تحويل "حزب الله" إلى حرس ثوري لبناني. وعدة الضغط والإقناع كلها متوافرة. هناك قوة عسكرية محترفة من غير الحكمة التخلي عنها، خصوصاً أن "التهديدات الإسرائيلية" لن تتوقف، ويجب أن يكون لبنان مستعداً للمواجهة في أي لحظة! و"التهديدات الإسرائيلية" مسألة يجب على اللبنانيين الإيمان بها حتى في ذروة التنسيق بين محور المقاومة في سورية (موسكو – طهران – دمشق) وبين جيش الاحتلال الإسرائيلي.
واحتمال أن يكون لبنان هدفاً لعرض إيراني أمر شديد الواقعية طالما أن خطوات عملية قد قُطعت على هذا الصعيد. فقد اختبرت العلاقة بين "الجيش والمقاومة"، وثَبُتت نجاعتها، وأبلت الحكومة اللبنانية بلاء حسناً عندما طُلب منها الخضوع لإملاءات الشقيق اللبناني والإيراني الأكبر. ثم إنه كم من الوقت والجهد اقتضى لإخراج الفكرة في الحالة العراقية من خياليتها إلى الواقع؟ لم تأخذ المسألة أكثر من ثوان قليلة، هي الوقت الذي استغرقه تصريح وزير خارجية العراق بأن سليماني هو مستشار الحكومة العراقية، وفي هذه الحالة لن يبخل وزير خارجية لبنان بتصريح مشابه، خصوصاً إذا كان جبران باسيل مستمراً في كونه وزيراً للخارجية. أما خصوم "حزب الله" في الحكومة، ومن بينهم رئيسها، فكل ما سيفعلونه هو التصريح بأن باسيل لم يتشاور معهم في موقفه، وهذا لا يعني رفضاً لما قاله الوزير، بل قبولاً موارباً. هذه الوقائع متخيلة لكنها ليست هذراً وهي تكررت في أكثر من محطة وموقف واجهته الحكومة في محافل دولية وعربية.
سوريا واليمن ليستا في منأى من احتمالات عروض إيرانية مشابهة، وهنا لا بد من العودة إلى جوهر العرض. فأن تكون "حرساً ثورياً" توأماً للحرس الثوري الإيراني فهذا يعني شملك بحكم ولاية الفقيه. الحرس الثوري العراقي، والحرس الثوري اللبناني سيكونان مشمولين بالولاية العامة للمرشد. القول أنهما مشمولان منذ الآن بهذه الولاية صحيح، لكن شرائح لبنانية وأخرى عراقية ما زالت حتى الآن خارج عباءة المرشد، وهذا تماماً ما قد يُغري طهران بالمسارعة لتقديم العرض. الفارق بين مرحلة ما قبل العرض وما بعده ليس كبيراً على المستوى الواقعي، لكن تثبيت النفوذ وتحويله معطى «قانونياً» يجعل منه واقعاً معترفاً به ومقبولاً وقابلاً للاستمرار وللتمدد.
في إيران الحرس الثوري هو الدولة العميقة وهو الاقتصاد العميق، وهو المتدخل في كل شيء، والذي لا يُسأل عن شيء. موازنته من خارج الموازنة العامة، ومهماته منوطة بغير الأجهزة الرسمية المعلنة، وسلاحه يفوق سلاح الجيش النظامي بأضعاف، ويصعب التمييز بين استثماراته في الخارج وبين استثمارات الحكومة.
فلنجرِ مقارنة موازية بين "حزب الله" وبين الجيش اللبناني، ومقارنة أخرى بين فصائل الحشد الشعبي وبين الجيش العراقي (آخر ما تم تداوله في العراق أن الأزمة المالية طاولت رواتب الجيش ولم تطاول رواتب عناصر الحشد). شدة التشابه تطغى على الفروق.
المقارنتان تسمحان بتوقعين: قبول بغداد العرض الإيراني، وانتظار لبنان عرضاً موازياً في وقت قريب.
( الحياة)