خطاب الرئيس السوري بشار الاسد، أمس، في افتتاح الدور التشريعي الاول لمجلس الشعب الجديد، والذي نقلته على الهواء مباشرة ثلاث محطات تلفزيونية لبنانية، أعاد الى الذاكرة جلسة ممتعة من أواخر سبعينات القرن الماضي، تخللها عرض صور جميلة عن ذلك المبنى العريق، وتلك القاعة التي كانت وستظل تعتبر بحق تحفة فنية سورية ومشرقية لا تضاهيها قاعة أي من برلمانات العالم.

كان الرئيس الراحل حافظ الاسد واقفاً في المكان الذي يقف فيه إبنه. وكان لبنان كله يتابع الخطاب التاريخي الذي جاء بعد أول محاولة إنقلاب في دمشق، وبعد آخر محاولة ثورة في بيروت. الصدفة وحدها أتت بالراحل الكبير منح الصلح الى واحدة من جلسات المشاهدة التلفزيونية المغلقة في العاصمة اللبنانية، ولم يكن قد تبقى من الخطاب سوى فقراته الاخيرة التي كانت كالعادة تختصر الموقف الأبرز وتحمل الرسالة الأهم. المجاملة فقط استدعت سؤال منح بيك عن الخطاب، الذي لم يكن يتابعه طبعاً، وكان يستغرب (أو يستهزىء) الاهتمام به الى هذا الحد.

يومها، ختم الاسد الخطاب بقبضتيه المتماسكتين المرفوعتين، ولم يكن البيك قد اختتم الجواب المستفيض. ضاع الموقف المنتظر على أحرّ من الجمر، وتبددت الرسالة الموجهة يومها الى السوريين واللبنانيين على حد سواء.  لكن محاضرة البيك، او بالاحرى مقاطعته للخطاب، لم تذهب سدى ولم تسقط من الذاكرة، بل تحولت مع الايام الى معيار أولي للحكم على الحياة البرلمانية في اي بلد كان.

كان المبنى نفسه هو عنوان المحاضرة، وكانت القاعة التي وقف فيها الاسد الاب، والابن، هي مادتها: هو واحد من أهم وأبرز مباني دمشق الرسمية القديمة التي شيدها الانتداب الفرنسي في عشرينات القرن الماضي في عهد الجمهورية السورية الاولى (وقد أدرج لاحقا على لائحة التراث العالمي). طال الشرح وامتد من الرئيس الاول للجمهورية الى الرئيس الاول للبرلمان السوري، الى القصف الفرنسي المباشر للمبنى الى الحريق المتعمد الذي أشعلته في داخله الفرقة السنغالية الفرنسية، والى الشهداء السوريين الـ32 الذين سقطوا دفاعاً عن المبنى.. وصولاً الى "البعث" الذي تولى في وقت واحد توسيع ذلك المعلَم المعماري والسياسي المهم، وإفراغه من محتواه ومن دوره التشريعي الذي نُقل الى المحافل الحزبية. 

أما قاعة "القبة" التي تنعقد فيها الجلسات العامة، فقد إستحقت شرحاً مطولاً إمتد الى ما بعد وقوف اعضاء مجلس الشعب مصفقين للاسد الأب يومها. فهي ذروة الإبداع في فن الهندسة الداخلية الدمشقية، وهي ذروة الدهاء في السياسة البعثية السورية، حيث يقف الرئيس خلف منبر متواضع كأنه على منصة شهود في محكمة، خلفه قضاة، رئيس المجلس ونائبه وأكبر الاعضاء سناً، ويحيط به من كل جانب، البرلمانيون الذين وضعت مقاعدهم على مدرجات مرتفعة حتى عن منبر الرئيس نفسه، وموزعة، بحسب الفرز الدقيق لنتائج الانتخابات، بين الموالاة والمعارضة، وحتى المستقلين.

لكن العلامة المميزة والباهرة فعلاً لتلك القاعة، بحسب رواية البيك، اللامبالية في حينه بخطاب الاسد الأب، وبحسب مشاهد النقل المباشر لخطاب نجله بشار، كانت وستبقى تلك الزخرفة الخشبية التي تغطي سقف القاعة وجدرانها ومقاعدها وطاولاتها وبواباتها، والتي أنجزتها أنامل فنان دمشقي ساحر، هو محمد علي الخياط الذي وضع لمساته على معظم قصور سوريا ومبانيها الجميلة، والذي يصنف واحداً من أهم فناني الزخرفة في العالم.

... بالأمس، بدت القاعة ضيقة بعض الشيء على الرئيس والبرلمانيين الجدد، لكنها كانت مشرقة كالعادة بزخرفتها الرائعة، التي تخفف من صدى التصفيق الحاد المتكرر، لخطاب لا يختلف في لغته ولا في نبرته ولا في وجهته، عن ذاك الذي ألقاه الاسد الاب في مثل هذه الايام، قبل نحو أربعين عاماً.

 

المدن: ساطع نور الدين