في شهر أغسطس 2015، قامت وزارة الداخلية اللبنانية عبر شعبة المعلومات بإلقاء القبض على إرهابي “سعودي” عمالته الإيرانية مثبتة، هو أحمد المغسل، أحد مخططي ومنفذي تفجيرات الخبر سنة 1996، وبعد القبض عليه استند وزير العدل أشرف ريفي إلى الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب مسلما المغسل إلى السلطات السعودية.

وفي هذه القصة تفاصيل تقاطعت داخلها أسماء عواصم إقليمية ودولية، ويوما ما ستتاح الفرصة لكشف خباياها وأسرارها، لكن الاستشهاد بها واجب بغية الإشارة إلى وزير الداخلية نهاد المشنوق، الذي اعتبر نفسه بطل القصة بلا مبرر، وتوقع أو أراد، أن يستقبله وزير الداخلية السعودي وولي العهد الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز تكريما لبطولته “النادرة”، مع العلم بأنه لم ينكر أحد دور الأجهزة الأمنية اللبنانية في توقيف المغسل، لكن الاستقبال لم يتم.

وحتى في الاجتماع الأخير لوزراء الداخلية العرب، الذي انعقد في ذروة التوتر الخليجي- اللبناني، لم يمنح الأمير محمد بن نايف الوزير اللبناني الخلوة التكريمية التي تمناها، خصوصا مع موقفه المداهن لحزب الله، وكانت هذه المؤشرات دالة على أن الرياض تنظر بجفاء إلى المشنوق رغم التاريخ الطويل من الرضا، مع الإشارة إلى أن حظوة المشنوق هي من أوصلته إلى وزارة الداخلية بديلا للنائب البقاعي جمال الجراح في اللحظات الأخيرة لتشكيل حكومة الرئيس تمام سلام.

والحديث عن المشنوق هو موضوع الساعة بين الرياض وبيروت، فعقب هزيمة توافقات أو تحالفات تيار المستقبل، الذي ينتمي إليه المشنوق ويرأسه سعد الحريري، في طرابلس، أطلق الوزير العتيد تصريحات صاخبة عبر محطة تلفزيونية لبنانية، إذ قال إن زعيمه لا يفعل شيئا من دون توجيه سعودي، والزعامة الحريرية تدفع ثمن مهادنة السياسة السعودية زمن الملك عبدالله، فهي من أجبرته على زيارة دمشق التي أغضبت جمهور تيار المستقبل، كما أنها عطلت وصول حليف حزب الله (ميشال عون) إلى رئاسة الجمهورية، وترشيح سليمان فرنجية صديق بشار الأسد بدأ إنكليزيا فأميركيا ثم سعوديا، وبالتالي حريريا، وقد نفى الإنكليز الجزئية الأخيرة قبل السعوديين.

تصريحات المشنوق مفاجئة للعامة، وفضلا عن أنه كان مقربا من السعودية زمنا طويلا، فهو يعتبر من الدائرة الضيقة والحاجبة حول الرئيس سعد الحريري؛ ولهذه الدائرة، التي تتألف من نادر الحريري وغطاس خوري وباسم السبع وهاني حمود إضافة إلى المشنوق، دور كبير في السياسات الحريرية.

سياق الزيارة

     

 

إنني من أنصار النقد الذاتي للسياسة السعودية من قبل المخلصين والمختصين، وقد أخطأت السعودية -من وجهة نظري- في لبنان غير مرة وعليها الإصلاح والتطوير، لكن تصريحات المشنوق ليست في هذا السياق، فأقل وصف تستحقه هو التهافت والتناقض، وما كتبت هذه المقالة إلا بعد التواصل مع غير مسؤول مقرب من الملك عبدالله ووزير الخارجية الأمير سعود الفيصل، ومنهم من لا يزال على رأس العمل الرسمي، وكان الرد واحدا، الملك عبدالله لا يمكن وصفه بالضعف والمهادنة في وجه إيران وبشار الأسد. بل إنني تواصلت مع مسؤول رفيع كان من نجوم تلك المرحلة، وسألته عن ملابسات زيارة دمشق، فجاء رده القاطع، كانت زيارة دمشق حتمية، وتوقيتها معروف قبل حصولها بأسابيع إن لم يكن قبل أشهر، ولو اتخذ سعد الحريري قرارا نهائيا وصريحا وحاسما برفض الزيارة لوجدنا حلا، فالزيارة كانت مقررة لرئيس الحكومة اللبنانية -أيا كان- وليس لسعد الحريري كشخص، ورغم معرفة الحريري بالزيارة حزم قراره بترؤس الحكومة، وموافقته على الزيارة استندت إلى نوايا حسنة أهمها حل أزمة لبنان مقدما مصلحة بلاده على ألمه الشخصي، علما بأن بشار الأسد أبلغ الوسطاء الدوليين، بأن المبادرات الدولية لن تنجح إذا تمت تسمية فؤاد السنيورة مجددا لرئاسة الحكومة، ويبدو أن الفيتو البعثي- الإيراني مازال قائما إلى اليوم.

وأضاف المسؤول الرفيع “المشنوق يعيرنا بتلك الزيارة من دون تذكر ظروفها ونتيجتها المباشرة، في تلك الفترة برزت رهانات دولية على تحسين سلوك نظام الأسد كمقدمة لفك ارتباطه عن إيران، ولم نكن وحدنا من أحسن الظن وزار دمشق، فقد سبقنا الأميركيون والفرنسيون والإنكليز والأتراك، وفي هذا السياق ذهبنا وحصلت مباحثات سين – سين الشهيرة، ولم يتزحزح الملك عبدالله قيد أنملة عن مصالح بلاده وعن سيادة لبنان، فقد رفض العاهل السعودي تشريع المطامع البعثية- اللبنــانية في لبنـان، ولذلك انتهت المباحثات”.

ويضيف المسؤول الرفيع “في تلك الفترة، أصدر سعد الحريري تصريحا عن “شهود الزور” والمحكمة الدولية، استخدمته قوى 8 آذار لإسقاط حكومته، وحين تولى نجيب ميقاتي رئاسة الحكومة لم تستقبله السعودية بصفة رسمية مطلقا، باستثناء مناسبة عزاء مع أغلب الساسة اللبنانيين، ويتذكر الجميع أن الرئيس ميقاتي أصبح يعتمر أسبوعيا لأشهر أملا في استقبال رسمي لم يحصل، وقد قابله الأمير مقرن بن عبدالعزيز بصفة شخصية، وقال له نصا «هناك مؤامرة واضحة في لبنان لتعطيل المحكمة الدولية عبر إيقاف تمويلها، والملك عبدالله يبلغك بوضوح أنك لن تنال رضاه ومباركته من دون حماية المحكمة»، عاد الرئيس ميقاتي إلى بيروت وضرب التآمر على المحكمة الدولية، ومع ذلك لم يستقبله الملك عبدالله”.

وتابع المسؤول الرفيع “إن انتقاد زيارة دمشق في هذا الزمن سهل، لكن قراءة الظرف الدولي في لحظتها هو المنطلق السليم للحكم الموضوعي عليها، والمملكة تستحق الشكر لأنها أوقفت المباحثات ورفضت التنازل مطلقا لإيران والأسد”.

وتساءل المسؤول الرفيع “لماذا اختصر المشنوق عهد الملك عبدالله بزيارة دمشق؟ فالملك الراحل هو من وبخ بشار الأسد بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري «إما الانسحاب الكامل من لبنان وإما قطع العلاقات»، والملك عبدالله هو الداعم الأول للمحكمة الدولية، والملك عبدالله هو من حصن حكومة الرئيس فؤاد السنيورة أثناء محاصرتها في الشارع، والملك عبدالله هو أكبر داعم سياسي للبنان ولقوى 14 آذار وتيار المستقبل، وسعد الحريري يعرف ذلك جيدا بالتفصيل الممل، فأين المهادنة في كل ما سبق؟ وحتى خارج لبنان لم يكن عبدالله بن عبدالعزيز مهادنا أو مستضعفا، فالعاهل الراحل هو من أرسل قواته إلى البحرين لإنقاذها من المصير الإيراني، والملك عبدالله هو من بارك ثورة 30 يونيو ضد الإخوان، والملك عبدالله هو أول من ضرب حوثيي اليمن عسكريا بعد دخولهم إلى جبل دخان السعودي، والملك عبدالله كان رأس الحربة في دعم الثورة السورية”. وختم المسؤول الرفيع حديثه “لولا مواقف الملك عبدالله بعيد اغتيال الرئيس الحريري لكان نهاد المشنوق في منفاه الأوروبي أو في سجن تدمر، لا عضوا في الحكومة اللبنانية”.

إن المؤرخ لمسيرة المشنوق لا بدّ أن ينظر إلى توليه لوزارة الداخلية كمنعطف حادّ في مشواره السياسي، بدأت الرياض تتوجس من تصرفات المشنوق إلى حدّ كبير، تنازلاته لحزب الله فاقت الوصف سياسيا وأمنيا وخدماتيا، ومن ذلك تعامله مع ملف قرية الطفيل التي قام الحزب الإلهي بتهجير أهلها السنة، فحلم المشنوق بتولي رئاسة الحكومة أفقده التوازن، والتصريح ذاته وضع نفسه في كفة واحدة بجوار الرئيس نبيه بري والرئيس سعد الحريري مع أنه لم يحمل لقب “دولة الرئيس” بعد، وحين قام حزب القوات اللبنانية بترشيح ميشال عون لرئاسة الجمهورية، استخدم المشنوق قنواته غير الرسمية لتوجيه رسالة برتقالية، هو يؤيد ترشيح عون ويرى نفسه رئيس الحكومة المناسب لذلك العهد، وهو حاضر لتلبية رؤية عون، وقد تباهى المشنوق غير مرة برضا حزب الله عنه.

إن تصريحات المشنوق الأخيرة لا بدّ من أخذها في سياق عام يمرّ به تيار المستقبل والمشهد السني في لبنان. فبعد فوز لائحة الوزير أشرف ريفي بأغلبية بلدية طرابلس، والنتائج الملتبسة لتيار المستقبل شمالا وبقاعا، فتشت الأوساط المستقبلية عن ألف تبرير للتراجع السياسي مستبعدة التقصير الذاتي، فمرة فوز ريفي مؤامرة قطرية، ومرة مؤامرة قواتية، وليس آخرها السياسة السعودية زمن الملك عبدالله، وهذا التفاف حول الواقع هدفه التعالي عن الاعتراف بالتقصير وبالخطأ، والأسوأ أنهم لا يريدون تحمل مسؤولية مبادراتهم المعلنة، ومن ذلك التملص من مبادرة ترشيح سليمان فرنجية التي تباهوا بها لأشهر، ومن لا يتحمل مسؤولية خياراته في السياسة فهو في أزمة وجودية.

وتصريحات المشنوق تضمنت تناقضات فاضحة ومضامين ملتبسة، فإذا كانت سياسة الملك عبدالله ضعيفة ومهادنة فلماذا رفض رئاسة عون كما قال المشنوق نفسه؟ وإذا كانت سعودية الملك سلمان مواجهة فلماذا رشحت فرنجية كما قال المشنوق نفسه أيضا؟ إن عزف المشنوق على شقاق مزعوم بين عهد الملك عبدالله وعهد الملك سلمان دلالة سيئة. فالملك سلمان أكمل نهج سلفه في كل الملفات، وحين هاجم برنامج إعلامي عهد العاهل الراحل تعامل سلمان بحزم مع ضيف البرنامج ومقدمه، وحين قطعت السعودية هبتها للجيش اللبناني صرح الشيخ خالد التويجري (رئيس الديوان الملكي سابقا) بأن الملك عبدالله لو كان على قيد الحياة لاتخذ نفس الإجراء تفاعلا مع المستجدات.

قال المشنوق إن الرئيس الحريري لا يفعل شيئا من دون توجيه السعودية، وهو بذلك اقترف أكبر إساءة في حق سعد الحريري قبل المملكة، إذ يتطابق كلامه مع اتهامات أمين الحزب الإلهي حسن نصر الله للحريري. فالشيخ سعد في نظر المملكة زعيم وحليف، لكنه في نظر محور المقاومة مجرد موظف، واستقلالية سعد الحريري محسومة سعوديا، وتكشفت في غير موقف، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري طرحت السعودية مبادرة بين لبنان وسوريا رفضها سعد الحريري. وقبل مؤتمر الدوحة، طرح السفير السعودي عبدالعزيز خوجة مع رئيس مجلس النواب نبيه بري مبادرة “مؤتمر الرياض” رفضها سعد الحريري أيضا، وكل ذلك لم يؤثر على العلاقات بين السعودية والحريري. وأثناء الغياب الطويل لسعد الحريري عن لبنان، أبلغني مسؤول أمني سابق تعامل مع الرئيس الحريري مباشرة، “نصحنا الرئيس الحريري غير مرة بالعودة إلى لبنان مع تأكيدنا على خوفنا عليه ليتوخى الحيطة والحذر، لكنه لم يعد حينها”، وأضاف المسؤول الأمني في اتصالي القريب معه “لم تتعامل السعودية مطلقا مع الحريري بمنطق الفرض والأمر، وكنا دائما نقول له هذا رأينا لكن أهل بيروت أدرى بشعابها”.

في تناقض آخر، حين يقول المشنوق إن الحريري موظف سعودي، وإن السعودية الآن سعودية مواجهة، لماذا لم يتخذ الحريري سياسة المواجهة بعد عودته إلى لبنان؟ لقد ألمح المشنوق إلى أن السعودية الراهنة قصرت في دعم سعد الحريري، وهذا غير صحيح. فقد سخرت المملكة كل ثقلها لتوحيد السنة تحت المظلة الحريرية، وهذا غيض من فيض، ويؤسفني أن بعض الأوساط المستقبلية غير الرسمية حملت الأزمة المالية الحريرية على عاتق المملكة، وتصريحات ولي ولي العهد أثبتت ان الحقيقة في مكان آخر.

 

فقدان توازن

 

فقد المشنوق توازنه بسبب انتصار ريفي الطرابلسي، فأميركيا سقطت دعايته بأنه بطل محاربة الإرهاب بعد صعود الجنرال، تمنى المشنوق أن يكون هو مكان ريفي، لكن الصعود الريفي معناه ان نهجا كاملا سقط، وهذا النهج يعتبر المشنوق من أقطابه “مداهنة الحزب الإلهي”. كما أن صعود الريفي أثبت أن الخوف من تشرذم السنة لن يحصل، فلا يهم إن كانت هناك قوة سنية مؤثرة أو أكثر مادامت كلها تعادي حزب الله، فتشرذم السنة المتمثل بحالة المشنوق، هو الاستسلام لحزب الله.

تصريحات المشنوق الأخيرة أطلقها عمدا لإغراق سعد الحريري أكثر وتمهيدا لانشقاقه عن تيار المستقبل واستفتتاحا لارتباط إقليمي جديد بعيدا عن المملكة، وهو يذكرني بمشروع حزب الله “سرايا المقاومة” أي الطابور السني الخامس الذي شكله الحزب الإلهي وسلحه ودعمه بقصد شق السنة وإذلالهم، وطموحات المشنوق الرئاسية -بقصد أو بغير قصد- وضعته في هذا السياق، ولا أنسى أنه من المسؤولين المباشرين عن تأزيم العلاقات القواتية- المستقبلية، ومن المسؤولين المباشرين عن انفجار العلاقات الريفية- الحريرية، وقد يتساءل البعض بعد كل هذا كيف دخل المشنوق إلى دائرة الحريري الضيقة والمؤثرة وظل فيها؟ إذا تناسينا الأداء السياسي المرتعش وأخطاءه المتفاقمة، فحالة المشنوق هي خلاصة أزمة سعد الحريري وحقيقتها.

 

العرب :أحمد عدنان