لو كان هابيل هو الذي لم يُقبل قربانُه لكان تقبَّل ذلك بروح رياضية ، لأنه يُقدم إختيار الله له على الإنتصار لنفسه ، ولأنه بهذه الصفة ، كعابدٍ لله وعبدٍ له كان قربانه (ونسكه ومحياه ومماته) للهِ وحده مُعبِّدَا نفسَه وهواه  وعقلَه وقِواه لله ، فاستحق عند ربه أن يُقبَلَ قربانُه الذي يتقرب به إليه.

  بينما أخوه قدَّمَ عبادةَ طاعته لنفسه وهواها على منطقِ عقله ورشده في عبادة الله وطاعته ،  فكان قربانُه ( ونسكه ومحياه ومماته) لهوى نفسه وليس لله فلم يصل ما يتقرب به من قربان  إلى الله فَرُدَ عليه. 

    هذا الذي يصفونه باستبداد النفس على العقل

  وبهذا ضلَّ كلُ ضالٍّ ، ببساطة ، بسبب اتِّباع سُبُلِ هوى النفس ، لقوّتها منه وغلبتها عليه وعلى عقله ورشده ، وترك سبيلَ الله لهوانِ أمرهِ ونهيه على نفسه هذه المستبدةِ على عقلِهِ 

  هل ننجو نحن من هذه الصفة ؟ صفة استبداد النفس والرغبة الجامحة للإنتصار لها ولو بالدوس على العقل ومنطقه ورشده كما يتبجح بذلك قائلهم :

  "وما أنا إلا من غُزَيَّةَ إن تجـ    هل جهلتُ وإن تَرشُد غُزَيَّةُ أرشُدِ"
    من هذا المقلع كانت كل عصبيةٍ وتعصبٍ ، واستحلالِ البغي والعدوان ، واستسهالِ الظلم والمكر والمكيدة ، واستحسانِ الغش والخداع والتضليل ، وكل هذه الموبقات التي تُزَيَّنُ للنفس فتراهُ حسنا وتُوغلِ فيه بلا حساب لحسيب ولا خشية من رقيب. 

  وأخطرُ ما فيها هو خفاؤها وعدم الشعور بها ، وهذه التخفية هي من سلاحها وجندها ، فيحسبُ المُبتلى بها أنه خالصُ العبودية لله ، فإذا قيلَ له اتقِ الله ، في ما يخالف هواه ، أخذته العزةُ بالإثم ، وطاشَ عقلُهُ ودينُه أمام الإنتصارِ لنفسهِ والتعصبِّ لها ، وقال مع قائليه "لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودَّاً ولا سُواعاً ولا يغوثَ ويعوقَ ونَسرا" 

  إنك ترى هؤلاء في كل مكان وفي كل ساعة ، انظر إلى المتحاورين في برامج الحوارات التلفزيونية وكيف تُوظَّفُ الحجة والمنطق للمغالبة ولإنتصار كل منهم لرأيه ونفسه وتعصبه وليس لتحري الرشد وقبول الحق حيثما يستبين. ولا بد أن مرَّ عليك من حاوركَ في أمرٍ خِلافي وأظهرتَ له بالبيِّنة والتوثيق عدمَ صحةِ ما يستند إليه من معلومات وأنها مفبركة وأن خلفها من يُروِّجُ لها ويُضلل حقائقها من أجل تسعير الفتنة ، وثم بعد ذلك كله ، تسمع وترى منه نفسَ الموقفِ السابقِ تماماً وبدون أدنى تعديل ، لأن ما قدمتَه له هو مجرد "حجج عقلية" لا يكون لها اي تأثير إذا كانت النفس  مستبدَّةً بالعقل ولاغيةً له. 

   إن تقييم الناس لاية قضية هو مزيج من حقيقة "ما هي القضية؟" ومن "موقف النفس" منها محبةً أو بغضاً ، خذ الإقلاع عن التدخين مثلا ، لو سألت المدخِّن لاستفاض في تعداد حسنات الإقلاع بالحجة والمنطق والعقل ناصحا الناس بذلك لكنه هو لا يُقلع بسبب قوة رغبة نفسه بها فتغلبُ نفسُهُ عقلَهُ ورشدَه ، ومثل هذا الإدمان يكون إدمان المعتقدات ، وقوة تعلّق النفس بها ، صحيحة أو سقيمة ، لأنها مثلها تُخالطُ اللحمَ والدّم ، طارحةً التعقُلَ والرشد أرضاً إلى حد ارتكاب المحرمات والمعاصي حميَّةً وتعصُّباً وجهالةً وتهوراً ، وأكثرُ موبقاتنا وجاهلياتنا قديما وحديثا هي من هذا الباب. 

  هذه اللوثة هي التي عمل الشارعُ الحكيم على الحماية منها عبر بناء قوة المناعة حيالها ب "التقوى" بكل أشكالها وعند كل حالٍ من أحوالِ الناس في ٢٣٩ آية من كتاب الله الحكيم. 

  هذه مقدمة مقصودة لما يلي بعدها 

   تغليبُ النفوسِ الجاهلة الطائشة على العقول والفُهوم ، هي التي يعمل الأعداء على استغلالها بكل وسيلة وبكل لون ويخططون لتأجيجها ، ويرعونها ويُعدّون رجالها وإعلامييها وشيوخها وولاة أمورها وعسكرها وجندها ومدارسها ومناهجها وكل ظروفها الإجتماعية و الإقتصادية والثقافية ، يعملون عليها بمنهجية متكاملة في مراكز القرار والابحاث والإعلام ويضعون لها الخطط والميزانيات والإمكانيات بكل جدٍّ واهتمام باعتبار ذلك جزأ من ضرورة نجاحهم وتفوقهم في إحكام هيمنتهم على الشعوب ومقدراتها.

 شعوبٌ نفوسها تستبدِ بعقولها ، ما أسهل حرفَها عن حقيقة دينها وأسهلَ قيادَها واستعبادها.               الإرساليات والمدارس التبشيرية سابقا ، ومراكز الدعوة الإسلامية حاليا

  تبدو المفارقة في العنوان ، فالإرساليات التبشيرية يسهلُ فهم وظيفتها في هذا الباب ، فكيف مراكز الدعوة الإسلامية ومساجدها ؟ 

  لا شك أن نشر مراكز تعليم الإسلام وتعريف الناس أمور دينهم والدعوة إلى الله هو من أوجب الواجبات على الأمة الإسلامية ، ويؤتي ذلك أفضل النتائج إذا كان ذلك الجهد خالصا لله ومقتصرا على تعليم القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة المُركِّزةِ على مقاصد الشريعة السامية من إخراج الناس من ظلمات النظم الوضعية الظالمة إلى نور الرحمة الإلهية ، وإلى الإسلام السمح الذي يُخرج الامة الرسالية الوسط الظاهرةَ على الامم بِعَظَمَةِ قِيَمِها. 

  يبقى إنتشار هذه المراكز صحيحاً ومباركاً ما دامت هذه هي غايتها وغاية مُنشئوها والقائمين عليها ، ويبدأ الإنحرافُ عندما تبدأ مرحلة الإهتمام "غير البريء" بتدريس المذهبيات والتركيز على تفسيق المخالفين وتكفيرهم ، حتى تتشبع به النفوس وتُشْرَبَهُ على أنه هذا هو الدين الحق فتستبدَّ بالعقول والفهوم ، غير عابئة بكل آيات الإحتراز من "إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا" إلى "لا يجرمنَّكم شنآن قوم ألا تعدلوا" إلى كل آياتِ التقوى التي لا يكون الإسلام والإيمان إلا بها .

   وهنا تبدأ اللوثة التي تسمم كل ما تم تعليمه للطالب من إسلام ودين ، ويتحول المركز إلى مسجدِ ضِرارٍ يخرّج "المجاهدين" المُعبّأين بِكُرهِ مخالفيهم ، الجاهزين لخدمة أجندات الأعداء من أفغانستان إلى ليبيا والصومال ونيجيريا مرورا بالعراق وسوريا ومصر وتونس وما سيأتي بعدها من دول إسلامية بعيدا عن فلسطين ومن يحتل فلسطين. 

  هذا الإهتمام الخطير جدا بهذا اللون من التدريس الديني كان غير موجود في ذهن رُوَّادِ حركاتِ الإسلام السياسي ولم يُقرّوه ولم يُعلِّموه ، بل حذَّروا منه كونه وقود الفتن التي تدمر المسلمين ، فمثلاً ، لم يكن في فكر وتعليم حسن البنا ولا سيد قطب عند نشأة مدرسة الإخوان المسلمين الحركية ولم تكن في فكر كُلِّ من نعرفُ من رواد مفكري ومنظري العالم الإسلامي ، ولا ندري كيف نجح حديثاً المكرُ المعادي بكل وسائله من إدخال هذه اللوثة على النفوس الطاهرة وكيف تقبَّلته واستبدت بالعقول والفهوم حتى حرفت الوجهة عن أصلها إلى معاداة وتفسيق المخالفين واعتبارهم هم العدو والإنشغال بحربه بعيدا عن الصهاينة "الاعزاء". 

  وإنك لتعجبُ من تَحرّجِ دُعاةِ اليوم وإسلامييها ومثقفيها من الخوض في الخلاف بين الصحابة الكرام درأ للفتنةِ ، ولكن في نفس الوقت لا يتحرّجون أبداً من الخوضِ في الخلافِ بين فرق المسلمين اليوم غير آبهين بدرأ الفتنة المؤجَّجَةِ التي تأكلُ الأمة بسبب خوضهم وتسعيرهم لها والعياذ بالله من الخذلان.

  أرجو ألا أكون قد أثرتُ نفوساً غالبةً على عقولها ومرتاحةً إلى خِيارِها التي تراهُ حسناً. 

  ".... وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أنيبُ" (٨٨-هود)


عدنان قميحة