في 15 تمّوز 2013، تأهب الضباط والعسكريّون في سجن رومية. فزيارة وزير الداخلية في حينه مروان شربل كانت "عزيزة" على قلب هؤلاء. اتّخذوا الإجراءات الأمنيّة، وأمّنوا له جولة شاملة على المبنى "دال" الخالي من السّجناء. اطمأن "معاليه" على ورشة ترميم السجن وقاعة المحاكمات. أسمع المتعهدين والمهندسين كلمات حازمة، ثم ما لبث أن انتقل إلى مكتب قائد السريّة، ليقول ما لديه.. ورحل.
في القسم الآخر من السّجن، أنهى الموقوف عبدالله الحشيمي تكليفه بمهامٍ خاصّة داخل مطبخ السّجن. أخذ حصّته من الأكل واستأذن من الرقيب م. س. الموكلة إليه مهام مراقبة المطبخ والنزلاء العاملين داخله، ليتوجّه إلى غرفته.
في هذه الأثناء، كانت الشاحنة المحمّلة بالخضار تفرغ حمولتها في باحة السّجن وتحديداً أمام المطبخ. فيما كان عسكريّ الباحة وحيداً ومربكاً بين فتح الباب الذي يدخل السجناء إلى المبنى وبين الباب الثاني الذي يخرج منه هؤلاء من المطبخ.
وعليه، لم يرَ كيف استطاع النّزيل الجديد في رومية أن ينتظر خلوّ الساحة من العسكريين، حتى يؤمّن فراره بعد اختبائه في أسفل آلية نقل الخضار.
لم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل تمكّن الحشيمي من دون جهد يذكر أن يمرّ على الحواجز الثلاثة داخل السجن من دون انكشاف أمره أو حتى الشكّ بوجوده.
استفاد الحشيمي من انشغال عدد كبير من الضبّاط والعسكريين بتأمين الاستقبال اللازم لوزير الدّاخلية، تماماً كما استفاد من نقص المعدّات اللازمة على الحواجز، إذ يشير رئيس الحرس آنذاك المعاون أوّل ا. ش. أنّه لم يكن لدى القوى الأمنيّة مرايا خاصّة بالتفتيش أسفل الآليات الدّاخلة والخارجة من السّجن. كما طلب المعنيون تأمين كلبين لتفتيش الآليات خلال ساعات الذروة، إلّا أنّ الطلب قوبل بالردّ السلبيّ.
أمّا الأنكى فهو أنّ الموقوف بجرم السرقة لم يكن وحيداً مع سائق الآلية حينما هرب، بل رافقه المؤهّل أوّل عمر س. الذي اعتاد أن يرافق سائق الآلية لكونه يتوجّه إلى أمام منزله في طرابلس.
ولذلك، كان السجين والعسكريّ في سيارة واحدة، بعد أن اختبأ الأوّل أسفلها، وطلب الثاني من سائق الآلية أن ينتظره أمام باب السّجن الرئيسي حتى ينهي أمراً لدى مكتب آمر السّجن.
وتكمن أهميّة "السيناريو الذكي" الذي نفّذه الحشيمي أنّ العسكريّ لم ينتبه لأي أمر غير عاديّ داخل الشّاحنة خصوصاً أنّه هرب لدى توقّف الشاحنة عند أوتوستراد جسر الموت، ثمّ توجّه إلى البقاع، حيث ألقي القبض عليه بعد أيّام قليلة من فراره.
بالأمس، كانت زحمة الضبّاط والعسكريين في المحكمة العسكريّة تشبه إلى حدّ بعيد الزحمة التي أحيط فيها مروان شربل لدى زيارته إلى السّجن منذ أكثر من سنتين. 16 من هؤلاء (يضاف إليهم معاون أوّل حوكم غيابياً)، وقفوا أمام قوس المحكمة. خلاصة الاستجواب كادت أن تكون نفسها المزحة التي أطلقها رئيس "العسكريّة" العميد الرّكن الطيّار خليل إبراهيم عندما قال: "كلامكم يوحي بأن المسؤوليّة تقع على عاتق الوزير. فعندما يأتي تتركون كلّ شيء".
وبرغم تأكيد التحقيق المسلكي بالإضافة إلى التحقيقات التي تولّاها قضاة "العسكريّة"، بعدم وجود تنسيق بين السجين الفار وأيّ من العسكريين أو الضبّاط، إلا أنّه بدا واضحاً أن الجنحة التي اتّهم بها هؤلاء: "الإهمال في القيام بواجبات الوظيفة ومخالفة التعليمات العسكريّة، ممّا أدى إلى فرار"، تنطبق بحذافيرها على الكثيرين منهم.
لم يكن بمقدور الـ16 مدّعى عليه تحديد الوقت الفعلي لهروب السّجين أو حتى خروج آلية نقل الخضار من السّجن، وذلك بعد مرور أكثر من عامين ونصف العام على فرار السّجين. الملازم المسؤول يشير إلى أنّ عمليّة الفرار حصلت حوالي السّاعة 12، أي عندما كان الوزير موجوداً في مكتب قائد السريّة. هذا أيضاً ما يؤكّده مراقب المطبخ الذي يشير إلى أنّ السّجين أنهى أعماله في المطبخ في هذا الوقت.
في حين يشير مسؤول الحراسة على الباب الرئيسي المعاون ج. ح. إلى أنّه لا يعرف أي ساعة بالضبط خرجت الآلية من السّجن قبل أن يحدّد توقيتاً بفارق ساعتين عن التوقيت الذي حدّده زملاؤه، بل يشدّد على أنّه كان يستند على التسجيل في السجلّات من هاتفه الرباعي. هل تختلف ساعة الهاتف عن السّاعة الحقيقة، يجيب العسكريّ أنّه يعتقد ذلك!
أحد المدعى عليهم يشير إلى أنّه كان مسؤولاً عن التفتيش، إلا أنّ زميله أوكله بتسجيل حركة الدّخول والخروج "لأنّ خطي حلو"!
وإذا كان لا أحد من العسكريين باستطاعته تحديد توقيت هروب السّجين، فإنّ المستغرب أيضاً هو انطباق الارتباك نفسه على تحديد موعد معرفة المعنيين داخل السّجن بعمليّة الفرار.
يقول الملازم المسؤول أنّه علم بالأمر حينما كان وزير الدّاخليّة ما زال داخل السّجن أي عند الظّهر. كما يؤكّد المراقب العام في المبنى الرقيب أوّل ط. س. أنّه علم بعمليّة الهروب عند مروره من أمام المبنى ليبلغه أحد السّجناء أنّ أحد الموقوفين في الغرفة نفسها لم يعد من المطبخ برغم إقفال المطبخ أبوابه، ليبلغ مباشرةً ضابط الدوام ثمّ آمر السّجن بفقدان موقوف في السجن!
في حين يلفت ضباط وعسكريّون وآخرون الانتباه إلى أنّهم لم يعلموا بالأمر إلّا عند قيامهم بالتعداد المسائي، أي بعد السّاعة الثالثة عصرا!
كلّ هذه التناقضات ظهرت خلال استجواب المّدعى عليهم، قبل أن يطلب ممثّل النيابة العامّة في المحكمة القاضي داني الزعني للعسكريين تطبيق مواد الاتهام والإدانة، وترك أمر الضباط لهيئة المحكمة العسكريّة وذلك "لعدم وجود ارتباط مباشر بين الضباط وبين عمليّة الفرار، وبالتالي الإهمال المباشر".
أمّا هيئة "العسكريّة" فاكتفت بالعقوبة التأديبيّة التي نفّذها الضباط الأربعة، والحكم على العسكريين بالحبس 10 أيّام. وحكمت غيابياً على واحد من العسكريين بالحبس ستة شهر والموقوف الفارّ شهر و100 ألف ليرة غرامة مالية بتهمة الفرار ومقاومة العناصر أثناء قيامهم بالوظيفة.
(لينا فخرالدين - السفير)