المراقب لمسيرة رئيس حزب القوات اللبنانية، وبالخصوص بعد مرحلة خروجه من السجن وكيفية مقاربته للمحطات الاساسية كان يتلمس سريعا أن الرجل قد خلع ثوب الميليشات وطلق نهائيا أدبيات الحرب الأهلية ومتخلفاتها ومساوئها وراح يطل على الحياة السياسية من موقع رجل الدولة المتطلع إلى المستقبل والحامل بلا شك لمشروع قيام لبنان المؤسسات والقانون والدستور .
حتى أنك تكاد تجزم بأن سمير جعجع هو الوحيد بين كل زعامات الحرب الاهلية الذي تفرد ليس فقط بدفع التكلفة الأعلى عن المرحلة الماضية وحوسب (وفق القضاء السوري) عن أيامها بل أيضا هو الوحيد الذي وقف بكل شهامة ورجولة في ذكرى قداس شهداء القوات اللبنانية (1988) ليعتذر اعتذار الكبار من اللبنانيين : "في هذه المناسبة الجليلة وبقلب متواضع صاف وبكل صدق وشفافية أمام الله والناس أتقدم بإسمي وباسم أجيال المقاومين جميعا شهداء وأحياء باعتذار عميق صادق وكامل عن كل جرح أو أذية أو خسارة أو ضرر غير مبرر تسببنا به خلال أدائنا لواجباتنا الوطنية طوال مرحلة الحرب الماضية " ويضاف إلى محطات سلّم تعملق سمير جعجع درجة هي بغاية الاهمية وبغاية الانقشاع الوطني عبر حسم خيار التموضع العربي وإنهاء النقاش الداخلي حول العداء لإسرائيل بشكل لا يبقى معه مجال للشك أو التشكيك، وصار مصطلح " العدو الاسرائيلي " جزء من الادبيات السياسية اليومية عند قيادة القوات وتصريحاتهم (حتى ولو لم يسمعها الممانعون لغاية في نفوسهم).
هذا السمير جعجع والذي صار بمثابة القامة الوطنية بمواقفه التي أخذت طريقها إلى أذان وقلوب الخصوم قبل الحلفاء إلى أن جاء يوم المصالحة التاريخية في معراب وانسحاب جعجع من السباق الرئاسي وتبنيه لترشح الجنرال ميشال عون على أساس النقاط العشرة التي أعلنت يومها .
إستبشرنا خيرا في تلك الليلة الليلاء بالرغم من كثرة الضباب والغموض الذي لف هذا التحول، وتغاضينا عن الترشيح لميشال عون باعتبار أن المصالحة المسيحية بين الرجلين وقلب صفحة سوداء بينهما كانت هي مصدر السرور لنا ولكل من يريد خيرا بمسيحيي البلد وبكل اللبنانيين، وتقبلنا هذا التحول إيمانا منا بأنه سيصب حتما في نفس الإطار الذي بات يعودنا عليه سمير جعجع من بعد نظر وهم استراتيجي.
ولكن وبكل أسف فبعد مرور أشهر على مصالحة معراب وبعد الجلسة رقم 40 واستمرار ميشال عون ملتزما قرار حزب الله بعدم النزول وانتخاب رئيس، حالها حال البنود العشرة التي بقيت حبرا على ورق فلا الاداء العوني تغير ولا الاستراتيجية الجعجعية تقدمت حتى أنه غاب المؤتمر الصحفي للحكيم بعيد الجلسة المؤجلة حفاظا على مشاعر حليف الحليف ، وخيضت الانتخابات البلدية على أجساد الحلفاء القدامى للقوات فيما حلفاء الجنرال يعلنون تبرأهم وخصومتهم التي لم تتزحزح للحكيم .
كنا نظن خيرا بأن هذه المصالحة التاريخية سوف تساهم ولو بالحد الادنى إلى "حكمنة" الجنرال، ولكن للأسف فإن ما شهدناه بالأيام الأخيرة الماضية، وبالأداء القواتي وبالمقابلة التلفزيونية الأخيرة لسمير جعجع مع الزميل وليد عبود فإن المؤشرات كلها تدل بأن الأمور تسير نحو عوننة الحكيم .... للأسف .