تعجل المحللون السياسيون اللبنانيون في استخلاص العبر من الانتخابات البلدية في طرابلس ليطلقوا أحكاما تطال أهواء السنة في لبنان كما هوية زعامتهم. ورغم أن الحدثٓ الطرابلسي، إذا ما أضيف إلى مراحل سابقة أهمها ذلك البيروتي والصيداوي، يستفز حبرا وفيرا لفهم تداعيات المناسبة، إلا أن ما بعد الحدث يحتاجُ إلى استدراك حكيم بعيد عن أي استنتاجات انفعالية.
لم يكن للسنّة في لبنان زعيم وحيد قبل أن يتعرّف اللبنانيون على رفيق الحريري ويخبُر السنّة في البلد مواهب الصيداوي المجهول الذي ترجل بين ظهرانيهم ذات يوم.
كان سنّة لبنان موزعي الولاءات على زعامات تقليدية محلية، فيما ولاؤهم الأصيل كان متوجّها نحو شخوص من خارج الحدود تروّج للدولة العربية الكبرى غير المعترفة بلبنان وتقسيماته وحدوده وقواعده.
كانت زعامات السنّة في لبنان زعامات موسمية يروج تداولها في مواسم الانتخابات. عند تلك المواعيد فقط ينقسم السنّة اللبنانيون بين صائب سلام وعبدالله اليافي ورشيد كرامي ومعروف سعد ونزيه البزري وتطول السبحة في مناطق التجمع المذهبي في بيروت وصيدا والشمال وإقليم الخروب في الشوف والبقاع الغربي…إلخ. وإذا ما صدف أن تصاعدت عصبيات الجمهور حول تلك الزعامات فذلك لأمر يتعلق باستحقاق مستورد تنفخه ناصرية شعبوية أو رياح عروبية مختلفة الهويات.
نأى السنّة بأنفسهم بصفتهم سنّة عن الحرب الأهلية اللبنانية، حتى أن قياداتهم التقليدية تشرّدت وتهجرت وشلّت حركتها مقابل رواج التيارات اليسارية والقومية، المفترض أنها عابرة للطوائف، بما في ذلك السنّة في البلد. ولأنهم لم يحضروا السوق (الحرب) فقد فاتتهم التجارة، فأتت مآلاتها ورعاية دمشق لخلاصاتها مهمّشة لدورهم السياسي في سبيل “فرض الخيار العربي” الذي يرتئيه الحاكم في دمشق. وحين لم يفهم السنّة بأمر التحوّلات باللسان جرى إفهامهم بالسيف (من اغتيال مفتيهم الشيخ حسن خالد إلى اغتيال زعيمهم رفيق الحريري).
لم يكن رفيق الحريري ليصبح زعيما “وحيدا” للسنّة في لبنان لولا حاجة الطائفة لزعيم “وحيد” بمواصفات رفيق الحريري. بهذا المعنى فإن زوال الحاجة هذه الأيام يزيل مبرر وجود زعيم وحيد للسنّة في لبنان. وعلى هذا لا تبدو في الأمر نكسة مفترضة لسعد الحريري، بقدر ما أن تبدل ظروف اليوم لم يعد يتيح مكانا حصريا لزعامة مركزية تجتمع في شخص وحيد، وهذا أمر ينسحب، وسينسحب، على بقية طوائف لبنان.
بإمكان السنّة في لبنان ألا يجتمعوا على قِبلة سياسية واحدة، وألا يمتلكوا رشاقة انتقال تلك القِبلة من “قريطم” إلى “بيت الوسط”. قد يقول قائل إن لغياب سعد الحريري وقعا مسؤولا عن تصدّع زعامة الرجل، لكن في ذلك استعجالا مغرضا، ذلك أن غياب الحريري جاء في سياق إقليمي، وربما دولي، تواطأت فيه حتى العواصم الحليفة. وأن إضعاف مكانة الحريري الشاب في لبنان، لا سيما إبعاده (وما يمثّل إقليميا) عن رئاسة الوزراء كان نكسة إقليمية للسعودية مقابل تقدم نوعي لإيران، وهو صراع كبار لا يمكن للحريري إلا أن يكون نتيجة لا صانعاً له. وإذا ما كان قرار عودة سعد الحريري إلى لبنان قرارا شخصيا، على ما هو مرجح، فإن رحيله قبل سنوات لم يكن قرارا شخصيا على ما هو مؤكد.
تمثّل النتائج التي حققها الوزير أشرف ريفي في طرابلس مناسبة لتفحّص راهن مزاج السنّة في لبنان، ومسؤولية تيار المستقبل وزعيمه في ما انتهى إليه. ينطلق ريفي من أرضية متينة تنهل من تراث رفيق الحريري الذي ينهل منه الحريري الابن. ويستند الرجل على تراكم وخبرة (منذ أن كان مديرا عاما للأمن الداخلي انتهاء براهنه كوزير للعدل في حكومة الرئيس تمام سلام) من كونه يتظلل بغطاء الحريرية بنسختها الأصيلة مع رفيق، وتلك المتوارثة مع سعد. ولا شك أن الرجل يعرف أنه لولا تلك الرعاية ما كان له ما له وما هو عليه اليوم غداة الانتخابات البلدية.
يتأسس المزاج السني الذي حمل الفوز لريفي على ثوابت أطلقتها حركة “14 آذار” وذهبت بعيدا بها بسبب استنادها على الحريرية وما تمثلها شعبيا بقيادة سعد الحريري. في تعبيرات الزعيم الشاب إدانة لنظام دمشق، ورفض لمنطق السلاح الذي يفرضه حزب الله على البلد، ورفض لتبعية لبنان لأجندات إقليمية في دمشق وطهران. كان سعد الحريري والحلفاء يتحركون من منظور إقليمي دولي يوفّر غطاء قانونيا وسياسيا ومعنويا للحراك اللبناني الداخلي.
لم يتغير خطاب سعد الحريري حين طالت الاغتيالات أصدقاءه وحلفاءه واضطر نواب الحلف للجوء إلى أحد فنادق العاصمة اتقاء من موت كان يتربص بهم خارج جدرانه. لكنه فهم مرغما أن تلك التغطية الإقليمية الدولية لم تعد حاضرة، وأن المقتلة التي يتعرض لها فريقه لا تقابل إلا بالـ“إدانة والقلق” اللفظيين. ثم فهم الرسائل الصديقة حين “اقتيد” للمبيت في قصر “قاتل والده” في دمشق “من أجل مصلحة لبنان”، وفهم التوجهات الحليفة المفروضة حين أتاه الملك السعودي الراحل عبدالله بن عبدالعزيز ببشار الأسد زائرا “تاريخيا” لرئيس سوري إلى بيروت.
يستعيد أشرف ريفي مزاجا سنّيا تمت صناعته وصيانته ورعايته من قبل سعد الحريري وصحبه، قبل أن تنفخ فيه الأجندات الإقليمية خيبة تلو أخرى. كم كان يتمنى سعد الحريري إخراج دمشق نهائيا وشلّ شللها في البلد. كم كان يتمنى أن تتمكن المحكمة الدولية من إلقاء القبض على قاتلي والده في دهاليز “المقاومة”. كم كان سيفرح لو استطاع إخضاع سلاح حزب الله للدولة اللبنانية ومنعه من نشر “سراياه” في لبنان وإرسال مقاتليه إلى سوريا. لكنه علم أن الأمور لا يكفيها التمني.
لا نعرف خيارات الرياض الحالية بالنسبة إلى السنّة في لبنان. قيل إن الرياض قد وسّعت من مروحة اتصالاتها، وأنها استقبلت شخصيات سنّية لم يكن مسموحا لها بزيارة المملكة في زمن سابق. لكن من الذي أغلق طرقات الرياض وأعاد فتحها؟ ومن الذي انتقل بالسنّة في لبنان من طور إلى آخر ومن سياسة إلى أخرى؟ فإذا ما كان خطاب ريفي يجاري مزاجا سعوديا راهنا، كما يقال دون تدقيق، فمن كان بوسعه أن ينقذ سعد الحريري من مزاج سعودي سابق؟
قبل الانتخابات في طرابلس دعا السفير السعودي في لبنان علي عواض عسيري قادة لبنان لمأدبة عشاء حُمّلت معانيها أوجها كثيرة. لم توجه الدعوة لأشرف ريفي، فهم الرجل الرسالة وأعلن بعد انتصاره أنه غير عاتب. بعد ساعات على صدور النتائج الأولى للصناديق في طرابلس، كانت الكويت وأميرها يستقبلان سعد الحريري. لا يملك الرجل أي منصب سياسي رسمي لكي يحظى باستقبال من قبل الدولة أميرا وحكومة وبرلمانا. استقبلت الكويت سعد الحريري وستستقبله عواصم عربية أخرى لأنه، وحتى إشعار آخر، زعيم السنّة في لبنان.
العرب: محمد قواص