كشفت النتائج العامة للانتخابات المحلية٬ التي جرت الشهر الماضي في لبنان٬ فشل الأحزاب اللبنانية في التعاطي مع الجماعات المحلية٬ خصوصا الأهلية٬ التي قررت التمسك بثوابتها التقليدية٬ والاكتفاء بعلاقة منفعية٬ وفقا لنظام مصالحها مع الأحزاب السياسية. فقد أعادت هذه الانتخابات الاعتبار لمفهوم العائلات الكبرى ومكانتها الاجتماعية٬ التي تحظى تاريخيا بتأثير مادي ومعنوي داخل محيطها٬ وهي التي كانت لفترات طويلة معبرا إلزاميا للدولة والأحزاب السياسية٬ وللزعامات التقليدية حتى الروحية٬ من أجل الإمساك بقرار الناخبين٬ الأمر الذي حولها إلى شريك فعلي في إنتاج الطبقة السياسية اللبنانية. غير أن هذه الأحزاب تخلت عن العقلانية في تعاملها مع المكونات المدنية والأهلية٬ وحاولت لي ذراع العائلات المستاءة أصلا من تغلغل شبكة العلاقات الزبائنية٬ التي شكلتها الأحزاب اللبنانية٬ خصوصا في العشر سنوات الأخيرة٬ من خلال هياكلها التنظيمية خارج البيئات الحزبية٬ بهدف تعزيز أدوار عائلات هامشية٬ واستيعاب أطراف مستبعدة داخل العائلات الكبرى٬ وفسح المجال أمامها للعب دور يوازي الزعامات التقليدية بهدف إضعافها٬ مما دفع الشخصيات التقليدية والجماعات المحلية والعائلات الكبرى إلى التكاتف في مواجهة حالة إلغائية٬ تستهدف إقصاء كل من هو خارج أطرها التنظيمية أو العقائدية.
بناًء على ما تقدم٬ انعكس السلوك الانتخابي لـ«حزب الله» وخياراته٬ إلى فشل في إلزام محازبيه وجمهوره في التكليف الشرعي الذي أعطاه٬ كما فشل «تيار المستقبل» في إقناع أنصاره على التصويت بشعار «زي ما هي»٬ فيما صدمت الثنائية المسيحية المستجدة «القوات اللبنانية التيار العوني» بعدم تمكنها من الاستحواذ على نسبة 85 %من التمثيل المسيحي٬ فقد أظهرت النتائج الانتخابية حصولهما على نسبة أقل بكثير مما ادعيا تمثيله. وعليه٬ لم تستطع ماكينة «حزب الله» الانتخابية بعتادها وعديدها٬ مالها وسلاحها٬ تحقيق الانتصار الكاسح على لائحة غالب ياغي٬ الذي خاض الانتخابات بميزانية لم تتجاوز 17 ألف دولار٬ كما لم يستطع من أراد احتكار تمثيل المسيحيين إزاحة النائب المسيحي عن «قوى 14 آذار سابًقا» الوزير بطرس حرب٬ من مدينة تنوريين٬ كما فشلت هذه الثنائية في انتزاع مدينة القبيات من النائب المسيحي عن «قوى 14 آذار سابًقا» هادي حبيش٬ كما لم يعد بإمكان «حزب الله» و«القوات اللبنانية» القفز فوق نتائج مدينة جبشيت الجنوبية وبشري الشمالية٬ وهما تعتبران كاملتي الولاء لهما٬ فقد حولت اللوائح المضادة٬ التي ضمت وجوها من كلا الحزبين وحصلت على 40 %من الأصوات٬ فوزهما إلى انتصار بطعم الهزيمة.
وعليه٬ لم تكن نتائج الانتخابات البلدية لمدينة طرابلس (شمال لبنان) المفاجأة الوحيدة٬ ولكنها كانت الأكثر قسوة٬ فقد جاءت تتويجا لمرحلة إخفاقات مر بها «تيار المستقبل»٬ الذي ظهرت عليه علامات الترهل السياسي مبكرا وهو لم يتجاوز العقد الأول من عمره٬ وبدا واضحا تأثير الحصار الأمني٬ ووضعه المالي٬ على حركته٬ كما أدى غياب الرئيس الحريري الطويل عن بيروت إلى بروز مراكز قوى داخل التيار تصرفت في محطات كثيرة خارج السياق المركزي للقرار التنظيمي٬ كما أدت جملة التسويات التي خاضها صناع القرار في التيار مع فرقاء لبنانيين٬ خصوصا حزب الله٬ إلى شعور عام بالغبن لدى محازبيه الذين تمسكوا باعتدالهم المشروط بالموقف الصلب٬ ورفضوا التسويات غير العادلة بحجة حماية الاعتدال٬ كما يسجل لهذا الطاقم السياسي سوء إدارته للعلاقة مع الحراك المدني٬ وتصوير «تيار المستقبل» كحالة برجوازية رأسمالية غير متعاطفة مع هموم الناس٬ وكأنه حزب السلطة الوحيد في لبنان٬ وتعامل بردات فعل حشرت الرئيس الحريري في خانة المدافع الوحيد عن الفساد في لبنان٬ مع العلم أن «تيار المستقبل» هو الحالة السياسية والاجتماعية الوحيدة التي باستطاعتها أن تحتضن المجتمع المدني اللبناني٬ وتشاركه في كثير من قضاياه. واجه تيار المستقبل استحقاق بيروت بوجه لائحة ينتمي أكثر من ثلث أعضائها إلى «14 آذار»٬ وكانت مناسبة للإعلان عن انفصال شبه كامل ما بين الحريرية والقوى المدنية الفاعلة التي شكلت سابقا أهم المكونات المستقلة داخل «14 آذار». فيما شكل استحقاق طرابلس المفصل في العلاقة بين الموقف السياسي والمزاج الشعبي المتماسك بوجه توافق غير متجانس٬ فكانت الغلبة للانتماء بوجه ادعاء الإنماء. هزيمة «المستقبل» في طرابلس واضحة صريحة٬ حيث باتت العقلانية في التعامل مع الاعتبارات الحزبية المحلية والعائلية ضرورة٬ من أجل حصانة موقع التيار وسط بيئته الحاضنة.
ليس سعد الحريري الخاسر الوحيد٬ ولكنه الأبرز٬ وخصوصيته أنه في عمر يسمح له بالمناورة٬ ويعطيه القدرة على تجاوز الإخفاقات٬ وباستطاعته أن يعيد لتياره شبابه وحيويته٬ وهذا ممكن عندما يقتنع أن سليمان فرنجية وميشال عون لا يمثلان طموحاتهم ولا تضحياتهم٬ وأنهم بانتظار عودته إلى حيث أشار يوما سعد الحريري.. لست الخاسر الوحيد ما «شهيد» الاستقلال الثاني سمير قصير الذي قال: «عودوا إلى الشارع٬ تعودوا إلى الوضوح»
الشرق الأوسط